موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

الفعل الأخلاقي كقضيةٍ تركيبيَّة قبليَّة عند كانط- وكالة ذي قار


يُقَال إن الفِطْنَة تكمن في بُعد التَّفكير، أو القُدرَة على اكتشاف الجانب اللا منظور للظواهر رغم اصطدامها المستمر بعناصر الحساسية عند الإنسان. إن الفِطْنَة بحق هي اقتدار الإنسان على استخراج نتائج جديدة من بديهيَّات ضاربة في القِدَم، وهذا بحق ما فعله نبي ألمانيا عمانؤيل كانط.

لسنا هنا بصدد الحديث عن الشهير من ثلاثيته النقديَّة –أعني نقد العقل المحض– فقد طالت الشروحات واستفاضت عنه ولا يعيب علينا أن نصمت بصددها، فالصمت هو الآخر فعلٌ فلسفيٌّ، وعندما تصمت الفَلْسَفة فإنها تعكس الواقع الخارجيّ للناظر، أما الصمت في نطاق القول الكانطيّ فهو جَمَال “والصمت في حَرَم الجَمَال جَمَال”. أما الغرض من هذه الأسْطُر القليلة القادمة، هو أن نتكلَّم بإيجازٍ عن بعض إسهامات كانط التي نالها النسيان وبقيت حبيسة الكُتُب والمُجلَّدات، وأعني هنا العقل العمليّ كما أظهر مداه كانت بعملية النقد.

كانت المرَّة الأولى التي تَعرَّض فيها كانط للمشكلة الأخلاقيَّة، هي في كتابه “تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق” الذي تجلَّت فيه قُدُرات كانط الفلسفيَّة بطريقةٍ أعطت للفعل الأخلاقيّ من الأصالة ما أفقدته إياه جميع الفَلْسَفات السابقة، فراح يَشِنّ حملة على جميع فلاسفة الأخلاق السابقين الذين أسَّسوا الأخلاق على مُعطيَاتٍ تجريبيَّة بعُديَّة، ورفض أن يكون مصدر الأخلاق خارجًا عن النَّفس البشريَّة، إنما هي تَكمُن ضمن العقل العمليّ للإنسان.

رفض كانط الانطِلاق من أي مُعطَى حسيّ، إذ تعتمد قيمة هذه المُعطيَات على السياق الذي تُؤخَذ فيه، وحتى أنبل الفضائل، كفضيلة ضبط النَّفس، إذا ما وُجِدَت عند أحد المُجرمين ليتحوَّل إلى قاتلٍ بارد المشاعر. وعليه فإن الفضيلة الوحيدة التي يمكن أن تُعَد خيرًا بذاتها، هي الإرادة الطيبة التي ينبثق عنها الفعل. فالمُسلَّمات التي ننطلق منها لأداء فعل ما، هي ما تُحدِّد أخلاقيَّة هذا الفعل، لا النتائج المُترتبة عليه، وفي هذا ضَرْب من التزمُّت الأخلاقيّ ورفض للتجريبيَّة والبراجماتيَّة في آنٍ واحد. إذ تظل النِّيَّة الطيبة في نظر كانط تشع كالجوهرة حتى لو لم يؤدِ الفعل أي نتائج ٍمرجوَّة. ولكي تصبح الإرادة طيبة، يجب أن تقترن بـ “الواجب”، أي أن يصدر الفعل عن إلزام ٍعقليٍّ تُمارِسه الإرادة تجاه الذَّات. والواجب هنا يخلو من أي عاطفةٍ بشريَّةٍ أو تلقائيَّة مُباشِرة أو نزعة قانونيَّة، إنما هو خيرٌ بذاته. فالإنسان الذي يمتنع عن قتل نفسه لإحساسه بالذنب أو الخوف لا يمكن أن يصدر فعله عن شُعُور بالواجب، فلا يُعَد ذلك فعلًا أخلاقيًّا، أما الذي يمتنع عن قتل لنفسه رغم مُنغِّصات العَيْش لإدراكه أن هذا الفعل خطأٌ بحَدّ ذاته ولإحساسه بالواجب العقليّ تجاه نفسه، فهو قد أقدم على فعلٍ أخلاقيّ.

أقولُ: ينبغي إذا أردنا أن لا نُجَانب الأخلاق، أن ننفي عن مُسلَّمات أفعالنا –أعني بالمُسلَّمات المبادئ التي ننطلق منها– أي عاطفةٍ أو نزعة تجريبيَّة. فالذي يصدر الإحسان رغم خلو قلبه من أي عاطفةٍ تجاه البشر، ربما ينطوي فعله على نزعةٍ أخلاقيَّة أكثر ممَّن يفعل الإنسان نتيجة ميل طبيعي لحُبّ البشر. فالواجب -حسب كانط- هو ضرورة أداء الفعل احترامًا للقانون.

إذن، ينبغي أن ننزع عن الأفعال أي عاطفةٍ أو تجربة، وأن نفعل الفعل للفعل ذاته لا للنتائج المُترتِّبَة عليه، أما انتظار الخير أو الجزاء الحسن فهذا يُضفي على أفعالنا صفة الشَّرطيَّة وينزع عنها الأخلاقيَّة.

فسمات الواجب هو أن يكون صوريًّا محضًا، أي قانونًا عامًا أو قاعدة شاملة منزوعة المادة تصلح لجميع البشر ولا صِلة لها بتغيُّرات التجربة، وأن يكون مُنزَّهًا من كل غرضٍ كبلوغ غاية ما، أو تحقيق السَّعادة، بل يُطْلَب لذاته وأن يكون قانونًا مُطْلقًا غير مشروطٍ، أي لا سبيل لتأسيسه على شيء آخر، بل هو قضية تركيبيَّة قبليَّة صرفة للعقل المَحْض، وأي بُعْدٍ حسيٍّ نُضفيه على الواجب الأخلاقيّ، إنما يأخذ من هذا الواجب بنفس القدر الذي اعتقدنا أنه يعطيه.

للإيضاح أكثر، يمضي كانط ليُميِّز بين نوعين من الأفعال: الأفعال الشَّرطيَّة، والأفعال غير الشَّرطيَّة أو المُطْلَقة. أما الأفعال الشَّرطيَّة فهي من شاكلة: لا تسرق لكي لا يُقْبَض عليك، لا تكذب وإلا ستُعَاقَب، أو إذا أردت أن تحيا سعيدًا فكن صالحًا. كلها لا تُمثِّل غايات بحَدّ ذاتها، إنما هي أفعال مشروطة بنتائجٍ تجريبيَّة مُتغيِّرة. أما الأفعال المُطْلَقة من شاكلة: لا تكذب، لا تسرق، أو كن صالحًا، هي أفعال غير مُشْروطَة وتُوجِب الفعل لكونه صالحًا بذاته بغض النَّظر عن النتائج المُترتِّبة عليه. والأفعال الشَّرطيَّة تقتضي التجربة وتستند على مُعطيَاتها المُتغيِّرة، فبالتالي هي لا تصلح أن تكون قوانينًا للأخلاق، وهي أيضًا قضايا تحليليَّة، فمن أراد الغاية أخذ معها الوسيلة. أما القضايا غير المشروطة، فهي قضايا تركيبيَّة قبليَّة، إذ تقتضي أداء الفعل إيمانًا بالواجب الأخلاقيّ، وهي شأنها شأن بقية القضايا التركيبيَّة القبليَّة من مُعْطيَات العقل المَحض مُتعالِيَة عن كل تجربة مُمْكِنَة. وهذه وحدها تأخذ صفة الأوامر الأخلاقيَّة، لأنها صالحةٌ صلاحية موضوعيَّة، أما ما عداها فيمكن اعتباره مجرَّد قواعد للفِطْنَة أو مبادئ لتحصيل السَّعادة، ويُعرِّف كانط هذه الأوامر فيقول:

إنها صِيَغ تُعبِّر عن عَلاقة قوانين الإرادة على وجه العموم بالنقص الذَّاتيّ المُمَيِّز لإرادة هذا الموجود أو ذاك

لا تصلح الأفعال الشَّرطيَّة إلا لتحصيل اللَّذة والسَّعادة أو المنفعة، فهذان مفهومان تجريبيَّان، إذ لا يمكن أن تقوم السعادة على مبادئ قبليَّة، فهي إحساس ذاتيّ مُعتمِد على مَلَكة الحساسيَّة لدى الإنسان من جهةٍ، ومن جهة ٍأخرى، فإن العقل قاصرٌ عن تحقيق السَّعادة، والغرائز أقدر عليها. فكل محاولةٍ لتعميم قانون للسَّعادة تتعارض في نهاية الأمر مع الاختلافات الذَّاتيَّة للبشر.

ويضع كانط، بعد أن أرسى دِعامَة القانون الأخلاقيّ، ثلاثَ صيغٍ أساسيَّة له، يُمكن أن تستنبط إحداها من الأخرى، كما أن الثالثة هي نتيجة طبيعيَّة لأوَّل قاعدتين:

القاعدة الأولى: افعلْ أي شيءٍ، بحيث تصلح مسلَّمات فعلك أن تصبح قانونًا عالميًّا

أي ينبغي علينا أن ننطلق من مُسلَّمات لا تتناقض مع نفسها أو مع طبيعة العَالَم الخارجيّ لتحديد أخلاقيَّة الفعل. فأنا انطلق من مُسلَّمات رفض السَّرقَة كي لا أسرق. ويُعرِّف كانط الفعل غير الأخلاقيّ، بأنه الفعل الذي نرتضيه لأنفسنا -كاستثناءٍ للقاعدة- لكن لا نرتضيه في الوقت نفسه للآخرين. فأنا حينما أكذب لا أقبل أن يكون الكذب بمثابة قانونًا عالميًّا، إذ يستحيل بعدها أي تواصل بين البشر، لكني أمنح نفسي حق الاستثناء في هذه الحالة كي أكذب، وهنا تتجلَّى عظمة القانون كونه يبقى واضحًا حتى حين كسره.

 

القاعدة الثانية: عَامِل الإنسانيَّة في نفسك وفي الآخرين كغاية قائمة بحَدّ ذاتها لا كوسيلةٍ


قد يعجبك أيضًا

فالأخلاق الكانطيَّة ليست أخلاقًا صُوريَّة محضة، بل تحتوي على مادةٍ، ومادتها هي الذَّات العاقلة لا الأشياء التجريبيَّة. فلا يحق لي أن أكذب على أحدٍ، لأن الكذب يُعامِل الذَّات المُقابِلة على أنها وسيلةٌ لتحقيق غاياتي، في حين أن جميع الذوات البشريَّة ينبغي أن تُعَد غايات بحَدّ ذاتها.

 

القاعدة الثالثة: اعملْ بحيث تكون إرادتك هي الإرادة المُشرِّعة الكُليَّة

وهذا القانون تجلٍّ للقانونيْنِ السَّابقيْنِ، إذ إن كل ذاتٍ عاقلة هي غاية بحَدّ ذاتها، فلا ينبغي أن تأخذ أوامرها من خارج، بل ينبغي أن تستنبط أفعالها من إرادتها الذَّاتيَّة. فالذَّات المُشرِّعة للقانون هي أيضًا خاضعة له.

ويرفض كانط جميع الفَلْسَفات التي تجعل من الإنسان خاضعًا لإرادات خارجيَّة، إنما هو يخضع لمسلمَّاته الذَّاتيَّة التي يسطرها لنفسه. وهنا يفترض كانط -مصادرة- حُرِّيَّة الإرادة ومعه مبدأ استقلاليَّة الذَّات كذاتٍ مُشرِّعة، لكي يكتمل بناءه الفَلْسَفيّ، إذ بدونها يبقى الإنسان خاضعًا لقانون الضرورة الطبيعيَّة ويستحيل عليه تشريع أي شيءٍ.

كما يرتقي كانط بالجانب العقليّ من الإنسان إلى مملكة الغايات التي تتكوَّن من الإرادات المُشرِّعة وتحكمها الإرادة الإلَهيَّة باعتبارها تُمثِّل الخير الأقصى. أما الجانب التجريبيّ، فهو خاضعٌ لقوانين الضرورة الطبيعيَّة ويمكن التنبؤ بأحداثه وَفْق تداعي الأشياء وتواليها زمنيًّا.

هكذا نرى أن كانط أظهر الأخلاق بصورة جوهرةٍ ثمينة كامنة فينا وبصورةٍ مختلفة تمام الاختلاف عن شتى المحاولات التي جعلت منها بمثابة أوامر مفروضة من سُلْطات خارجيَّة. فالإنسان نفسه مُشرِّع القانون الأخلاقيّ وخاضع له. ولا شَكّ أنها تعرَّضت للنقد الشديد خاصة فيما يتعلَّق بالجانب الصوريّ من النظرية، إذ اعتبرت بمثابة تعاليم جوفاء بعيدة عن الواقع الإنسانيّ، خصوصًا وأنه يرفض الرَّبط بين الأخلاق وفِكْرتي المَثْوَبَة والعقاب، ويرفض أيضًا الاعتماد على المُنْطلَقَات الحسيَّة في تعيين المبادئ الأخلاقيَّة.

كما أنه انطلق من ثُنائيَّة العَالَم الظاهر والعَالَم في ذاته، ليُبرِّر وجود حرية الإرادة ومملكة الغايات بعد أن نجح في تفسير حدود العِلْم المُمكن، انطلاقًا من نفس الثُنائيَّة، وفي هذا يقول شوبنهاور

إن كانط بمثابة الطبيب الذي يستعمل نفس العلاج لعلاج أمراض متعددة بعد أن أصاب في علاج أحد الأمراض

كما بيَّنت نظريَّات مدرسة التحليل النفسي أن الجانب الأخلاقيّ من الإنسان المُتمثِّل -بالأنا الأعلى- إنما هو مُكْتَسَب من جملة التعليمات التي يتلقَّاها الطفل من أبويه أولًا، ومن ثَمَّ من المدرسة والمجتمع ثانيًا، لتكبر معه كمُسلَّماتٍ أخلاقيَّة غير قابلةٍ للنقاش، أي أنها معرفة بُعديَّة مُكتَسَبَة بالحِسّ، وليست قبليَّة سابقة على التجربة كما افترض كانط.

وعلى نفس هذه النتائج سارت بقية النظريَّات الحديثة في تفسير الأخلاق، لكن كل هذا لا ينفي عظمة ونزاهة التَّفكير الكانطيّ. إذ لا يزال نقد العقل، بشقيه النظريّ والعمليّ، مرجعًا أساسيًّا لفهم جميع النظريَّات اللاحقة، وكما عَبَّر ول ديورانت أن فَلْسَفة كانط كانت بمثابة النهر الذي ارْتَوَت منه جميع الفَلْسَفات التي تلتها.

(function () {

function appendFbScript() {
var js, id = ‘facebook-jssdk’,
fjs = document.getElementsByTagName(‘script’)[0];

if (document.getElementById(id)) return;
js = document.createElement(‘script’);
js.id = id;
js.src = “//connect.facebook.net/ar_AR/sdk.js#xfbml=1&appId=1931834240421227&version=v2.0”;
fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs);

window.fbAsyncInit = function () {
FB.init({
appId: ‘1931834240421227’,
xfbml: true,
version: ‘v2.0’
});
FB.Event.subscribe(‘comment.create’, function (comment_data) {
console.log(comment_data);
update_comments_count();
});
FB.Event.subscribe(‘comment.remove’, function (comment_data) {
update_comments_count();
});

function update_comments_count(comment_data, comment_action) {
jQuery.ajax({
type: ‘GET’,
dataType: ‘json’,
url: ‘https://elmahatta.com/wp-admin/admin-ajax.php’,
data: {
action: ‘clear_better_facebook_comments’,
post_id: ‘77585’
},
success: function (data) {
// todo sync comments count here! data have the counts
},
error: function (i, b) {
// todo
}
}
)
};
};

jQuery(document).on(“ajaxified-comments-loaded”,appendFbScript);
}

appendFbScript();

})();



المصدر

التعليقات مغلقة.