موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

لماذا تعذر توطين التيار القومي بالمغرب؟ (1 من2) …- وكالة ذي قار



لا تزال فكرة القومية العربية أو العروبة القائمة على فهم أن العرب
أمة واحدة تجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، قائمة لدى تيار
عريض من النخب العربية. وعلى الرغم من الهزائم السياسية التي منيت بها تجارب
القوميين العرب في أكثر من قطر عربي، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار هذا التيار،
ليس فقط كفاعل سياسي هامشي، بل كواحد من الأطراف السياسية الفاعلة في تأطير المشهد
السياسي في المنطقة العربية.

ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي دشنته الثورة
التونسية، عادت الحياة مجددا إلى الفعل السياسي وتجدد السجال التاريخي بين
التيارات الرئيسية التي شكلت ولا تزال محور الحياة السياسية العربية، أي القوميين
والإسلاميين واليساريين، بالإضافة لتيار تكنوقراط يحسب نفسه على الوطنية ناشئا على
هامش هذا السجال.

وإذا كان الإسلاميون قد مثلوا الصوت الأعلى في مرحلة ما بعد ثورات
الربيع العربي؛ بالنظر إلى كونهم التيار الأكثر تعرضا للإقصاء في العقود الماضية،
ولأنه كذلك التيار الأقرب إلى غالبية روح الأمة التي تدين بالإسلام، فإن ذلك لم
يمنع من عودة الحياة مجددا للتيار القومي، الذي بدا أكثر تمرسا بأدوات الصراع
السياسي؛ على اعتبار تجربته بالحكم في أكثر من بلاد عربية، وأيضا لقربه من دوائر
صنع القرار، خصوصا العسكرية والأمنية منها.

“عربي21”، تفتح ملف القومية
العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها،
وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف
الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية،
وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

اليوم ننشر رأيا كتبه خصيصا لـ “عربي21” الدكتور بلال
التليدي، يلقي فيه الضوء على سبب فشل انتشار الفكر
القومي العربي في المغرب الأقصى.


مقدمة

تكاشف عدد من التيارات الفكرية والسياسية في الوطن العربي نفسها،
وتفتح ملف النقد الذاتي حول مسارها وسبب إخفاقاتها، وتعرج على التحولات التي
عرفتها، والتجديد الذي لحق أطروحتها، وما إذا كان قد أسعف في تصحيح مسار التيار
الفكري والسياسيومواجهة أعطابه. افتتح التيار اليساري هذا الورش، فانطلق من مقولة
انحراف الممارسة عن متطلبات العقل النظري، ثم ما لبث أن وصل إلى نقد النظرية
نفسها، ثم نقد النقد، أي نقد التجديد العربي للأطروحة الماركسية، كما تمثلها عدد
من المثقفين (سمير أمين، الجابري، العروي، طيب تيزيني، مهدي عامل، جورج طرابيشي،
محمد سبيلا، عبد الإله بلقزيز….).

بالنسبة للتيار القومي العربي، لم يأخذ فتح ملف النقد الذاتي نفس
الزخم، ربما لأن الأطروحة النظرية القومية، بدأت أول ما بدأت متعددة في عقلها
النظري، وأيضا في تجربتها السياسية، وربما لأن زخمها نفسه ارتبط بالتجربة السياسية
أكثر من ارتباطه بالأطروحة النظرية نفسها.

لا يعنينا الآن سؤال سبب عدم بلوغ ملف النقد الذاتي للتيار القومي
العربي الزخم الذي بلغه ملف نقد الظاهرة اليسارية العربية، فالفكرة القومية في
الوطن العربي، لم تستنفذ أغراضها، ولم يصل بها التراجع الحد الذي وصل بالفكرة
اليسارية. لكن يعنينا أن نطرح سؤالا أخر، ربما يشكل جزءا من سؤال أكبر يتعلق
بمشكلة توطين الفكرة القومية في الوطن العربي، فالارتباط الذي رهن الفكرة القومية
بالتجربة السياسية العربية، جعل التيار القومي، يتنامي بشكل خاص في المشرق،
وتحديدا في مصر وسوريا والعراق، وبشكل أقل في لبنان وفلسطين والأردن، وربما أنتج
هذا الارتباط حساسية شديدة في جغرافيات أخرى، جعلت مقاومته رديفة لمقاومة رهان بعض
من هذه التجارب السياسية.

بالنسبة للتيار القومي العربي، لم يأخذ فتح ملف النقد الذاتي نفس الزخم، ربما لأن الأطروحة النظرية القومية، بدأت أول ما بدأت متعددة في عقلها النظري، وأيضا في تجربتها السياسية، وربما لأن زخمها نفسه ارتبط بالتجربة السياسية أكثر من ارتباطه بالأطروحة النظرية نفسها.

سؤال عدم تمدد التيار القومي للمغرب، يشكل إحدى جوانب مشكلة توطين
الفكرة القومية في الوطن العربي، ويتطلب أن يحاط بقدر عميق من التناول المعرفي،
الذي يفصل بين العام والخاص، أي بين بحث الأسباب التي جعلت التيار القومي ينحصر في
رقعة جغرافية عربية محدودة، ولا يقترب من جغرافيات أخرى، إلا بقدر محدود أو غير
مؤثر، وبين الأسباب الخاصة التي جعلت توطين التيار القومي في المغرب أمرا متعذرا
أو محفوفا بكثير من الإكراهات.

من المفيد في سياق بحث أفق استنهاض الفكرة القومية، طرح سؤال عدم
تمددها، والحساسيات التي نشأت في سياق مقاومتها، وهل السياسة وحدها هي التي أفقدت
الفكرة القومية شروط إشعاعها، أم ثمة عوامل أخرى جد معقدة وجب تسليط الضوء على
خلفياتها ودلالاتها.

في الأسباب العامة.. أو سياق انحسار الفكرة القومية

لا نريد الإطالة في تسليط الضوء على السياقات العامة، لأنها تقدم
جوابا عاما عن سؤال عدم تمدد الفكرة القومية في عدد من الأقطار العربية أو عدم
وصولها للحد المؤثر في المشهد الفكري والسياسي القطري، لكن، سنتوقف على ثلاث أسباب
رئيسة ربما تخلص الإطار العام الناظم لهذا السؤال.

السبب الأول، ويحمل طبيعة فكرية، أي يرتبط بالأطروحة النظرية
القومية، وكيف تشكلت من خلال تنظيرات رموزها الأوائل، وكيف فككت علاقة الدين
بالدولة، وعلاقة الدين بالمجال العام، وما النظرة التي حملتها لدور الدين في
المجتمع، والإمكان الذي منحته للدولة لتكييف دور الدين.

يعزو عبد الإله بلقزيز جزءا من تعثرات توطين الفكرة القومية في الوطن
العربي إلى الإشكالية النظرية التي لم يولها منظرو التيار أهمية كبرى، ويرى أنهم
لم يؤسسوا لأطروحة نظرية منسجمة، وأنه بسبب ذلك، أصبحت الأطروحة القومية رهينة
الممارسة السياسية، تكيفها التجربة السياسية بحسب مصالحها وإكراهاتها، وأن الجهد
الذي بذله بعض منظري الفكرة القومية لاستدراك هذا الخلل، مثل ما فعله ساطع الحصري،
لم تكن موفقة، لأنها همشت بعض الاعتبارات المؤثرة (المصالح الاقتصادية) لحساب اعتبارات
مبدئية (قضايا اللغة والثقافة والتاريخ).

والواقع، أن هذا النقد، لم يمس جوهر المشكلة، فالأزمة التي طالت
الأطروحة القومية، لم تكن فقط بسبب عدم انسجامها أو بسبب إلغائها ابعادا مؤثرة في
توليفتها الفكرية، بل كان الجوهري فيها، هو تعثرها في تقديم تأطير مقبول مجتمعيا
لعلاقة الدين بالسياسة، ودور الدين في صياغة الوحدة العربية، ونزوعها بدلا عن ذلك
لتبني رؤية علمانية، تنكر أو تهمش أو تعادي دور الدين في المجال العام. لا يتردد
عزمي بشارة في الإشارة إلى الطابع العلماني الذي ميز تبلور القومية العربية، وحاول
بلقزيز من خلال تحليله لمسار تطور القومية العربية أن يبرر هذا الاختيار بالخصومة
مع الدولة العثمانية والحاجة إلى التحرر من الاستبداد الذي كانت تمثله.

الحفريات الأولى للفكرة القومية، تشير إلى نزوع عام لمنظري هذا
التيار (وأغلبهم كان من المسحيين العرب) إلى إزاحة الدين من مجال السياسة، وعدم
اعتماده كمرجعية أو كجزء من الهوية السياسية العربية. فقد تبلورت أطروحاتهم في
سياق مقاومة الدولة العثمانية، ومقاومة الكيان السياسي لدولة الخلافة الإسلامية،
ولذلك، كان مبررا في البدايات التنظيرية الأولى، نزوعهم نحو البحث عن مشتركات أخرى
غير الدين، لتشكيل التيار القومي، أو التأسيس للقومية العربية (اللغة والثقافة
العربية والتاريخ والمصير المشترك بدلا عن الدين).

ومع أن بعض منظري التيار، مثل ساطع الحصري، قدم رؤية مرنة، تقبل بدور
ما للدين في تحقيق مأ أسماه بـ “التضامن الإسلامي” الذي يفيد الوحدة
العربية الشاملة ويقويها، إلا أن التجربة السياسية التي ترتبت عن علمانية القومية
العربية ولدت حساسيات كبيرة لدى النخب الإسلامية، فنتج عن ذلك مناهضة علماء الأمة
ودعاتها للأطروحة القومية ويمكن أن ندرج كتاب الشيخ محمد الغزالي حقيقة القومية
العربية ضمن الجهود المعتدلة في ذلك، إذ حاول في كتابه تنبيه النخب القومية إلى
مخاطر خلق الخصومة بين العروبة والدين.

السبب الثاني، القومية كأديولوجيا: وقد شرح عزمي بشارة وعبد الإله
بلقزيز سياق تحول الفكرة القومية، وكيف كيفتها التجربة السياسية في مصر (الناصرية)
وفي نموذجيها البعثيين (العراق وسوريا).

الاستقراء للتجربة الناصرية أو البعثية، في سوريا تحديدا، يكشف المآل
الذي انتهت إليه الإيديولوجيا القومية، وكيف دفعت بعض دينامياتها السياسية إلى خلق
محاور عربية، نتجت عنها محاور عربية مضادة، بسبب توجسات من فكرة الهيمنة باسم تصدير
الثورة القومية العربية، وقد شكل هذا البعد عاملا أساسيا في بناء حصانات فكرية
وسياسية واستراتيجية ضد توطين الفكرة القومية في عدد كبير من الأقطار العربية
خصوصا في الملكيات العربية التي كانت تشعر بالتهديد الثوري الذي كانت يمثله
المشروع القومي العربي.

على أن هذا شكل فقط أحد أبعاد هذا المشروع السياسي، أي ما يتعلق
بمفردات السياسة الخارجية، لكن العطب الخطير في هذا المشروع، يتمثل في رهانها في
تعبئة الجماهير على ثنائية الثورة وما ضد الثورة، ومناصرة الثورة وخيانتها، مما
نتج عنه التضحية بقيمة الحرية الفكرية والسياسية في الداخل لفائدة الولاء، مما
أنتج حملة ممارسات تنتهك الحقوق باسم التصدي لأعداء الثورة. فخلقت بذلك سبب
مقاومتها في الداخل والخارج معا.

السبب الثالث، الافتقاد للبعد الاستراتيجي: فالتجربة السياسية
للقومية العربية، لم ترتب أولوياتها بشكل دقيق، إذ دخلت الصراع على جبهتين
واسعتين، جبهة الصراع مع الصهيونية والهيمنة الأمريكية، وجبهة الصراع مع أنظمة
عربية تواطأت في تشجيع ثورات ضدها، مما تسبب في توسيع جبهة الرفض لها كما، وخلق
تحالف موضوعي مسنود غربيا ضدها.





المصدر

التعليقات مغلقة.