موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

إريش ماريا ريمارك: عن البشر وبيادق أخرى- وكالة ذي قار


يزن الحاج

لم يكن المعلّم الألمانيّ الشاب إريش ماريا ريمارك يتوقّع النجاح الساحق الذي نالته روايته «لا جديد في الغرب» (1929). وربّما لم يدرك أسباب ذلك النجاح حتّى بعد أن هدأت أصداء ذلك الانتشار. وعلى الأغلب أنّه لم يكن ليتخيَّل صمودها قرابة قرن كامل من القراءة وإعادة القراءة والترجمة وإعادة الترجمة. غير أنّنا اليوم قادرون أكثر على فهم تلك الرواية وفهم كاتبها وفهم أسباب نجاحها، بل قادرون على ترسيخ مكانتها أكثر عبر إعادة قراءتها مرات ومرات. سنُسطّح الرواية ونختزلها اختزالًا مُجحفًا لو قلنا إنّها رواية عن الحرب العالميّة الأولى، أو عن الحرب، أيّة حرب. الرواية تهجو النّفاق البشريّ، بل البشر كلّهم، ألمانًا وغير ألمان، من شارك في الحرب ومن لم يشارك. وبذا فهي كانت وستبقى رواية كلاسيكيّة لن تُنسى إلا بنسيان فعل القراءة في ذاته، كأيّ عمل كلاسيكيّ راسخ آخر. أسباب انتشار الرواية كثيرة ومتشابكة ومتناقضة أحيانًا: إنّها رواية كتبها جنديّ ذاق ويلات الحرب وكتب عنها؛ رواية نضجت في ذهن كاتبها ولم يدلقها مباشرةً كشتيمة، بل انتظر إلى أن اختمرت وقست أكثر؛ رواية عن الحرب العالميّة الأولى ولكنّها نُشرت في سنوات السلام التي بدت فيها الحرب محض كابوس بعيد ظنَّ الناس أنّه في الماضي فقط؛ رواية نبشت ذلك الكابوس لتنبّه الناس إلى أنّ الحرب قادمة لا محالة وأنّ الإنسان أحمق إلى درجة تكرار أخطائه ذاتها دومًا، ومنافق إلى درجة إلقاء الكذبات الممجوجة ذاتها قبل كل حرب وأثناءها وبعدها.قراءة أخرى لريمارك؟ ترجمة أخرى لريمارك؟ هذا سؤالان متهافتان لأنّ الاستنكار الذي يغلّفهما مردودٌ على صاحبهما. نعم، لا بدّ من قراءات ومن ترجمات لهذه الرواية. ومن هنا تنبع أهميّة الترجمة الجديدة لرواية ريمارك التي صدرت أخيرًا عن دار «أثر» بترجمة ليندا حسين. إذ نقرؤها مترجمةً بترجمة دقيقة صافية عن الأصل الألمانيّ مباشرة، وبالعنوان الأدق «لا جديد على الجبهة الغربيّة». ليس هذا مجال الحديث عن الفارق بين العنوانين: «كل شيء هادئ على الجبهة الغربيّة» (كما ساد في الترجمات السابقة عن لغات وسيطة) و«لا جديد على الجبهة الغربيّة». إذ سنضيع وقتًا وجهدًا كبيرين في محاولة إقناع قراء كثيرين ببدهيّات: أهميّة الترجمة عن اللغة الأصل، والحفاظ على العنوان الأصل. المهم هنا هو أنّها ترجمة صدرت في وقتها إذ نعيش أيامًا فوضويّة تجمع طبول الحرب وهدنة السلام، وتُنذر بطبول أعلى لحروب قادمة لا محالة. مئة عام لا تكفي كي يتخلّى البشر عن حماقتهم ونفاقهم، إذ لعلنا لا نعيش إلا بالحرب ومن أجلها، أيًا تكن النتائج. وهذا ما كان بطل الرواية باول بويمر غافلًا عنه في بداية الأحداث، إذ كان في بداية الأحداث غافلًا عن الخطين المتوازيين اللذين يرسمان حياة الحرب: الأنا والنّحن. نتعرف إلى باول منذ البداية بوصفه بيدقًا من بين عشرات آلاف البيادق في الحرب، ولكنّه لا يدرك أنّه بيدق لأنّه ما يزال متذبذبًا بين الحياة المدنيّة التي لم يكد يبدأها بعد والحياة العسكريّة التي ستصبح حياته الوحيدة. ولذا يتناسى البيدق زملاءه البيادق الأخرى في السريّة التي كان تعدادها 150 جنديًا قُبيل بداية الرواية، لندرك بعد صفحات قليلة أنّ العدد تضاءل إلى 80، ليتضاءل أكثر إلى 32 مع منتصف الرواية، قبل أن يتلاشوا جميعهم وكأنّهم ما كانوا.ربما كان باول هو ريمارك نفسه. هذا ليس مهمًا لنا، بل يهمّنا براعة تشريح ريمارك للحرب وللبيادق الألمانيّة وغير الألمانيّة التي لا تولد ولا تعيش إلا لتكون وقودًا للحرب التي لا تنتهي إلا كي تعود. فرحة باول ورفاقه بالطعام الوافر في بداية الرواية حين أصبح لكل منهم حصتان بدلًا من حصة واحدة هي فرحة الجسد الذي لم يذق إلا الحرمان. النجاة هي الهدف الأول والأخير، والجنديّ خُلق كي يموت. تلك طبيعة الأشياء كما كان باول يراها. ولكن مع اكتشافه شيئًا فشيئًا أنّ البيادق تكاد تتلاشى يتنامى الشعور الآخر الذي لا يدركه إلا مَنْ عايش تجربة النّجاة الجماعيّة. أن تنجو مع رفاقك كي تكون لنجاتك معنى، لا أن تنجو بمفردك. باول نفسه الذي فرح بحصّة الأكل المضاعفة كاد يتقيّأ بسبب غفلة المدنيّين وأنانيّتهم حين رحل ليقضي إجازته في بلدته. مدير مدرسته يريد أراضٍ كاملة كي يرضى، وليس له أن يدرك معنى البقاء على قيد الحياة لأنّه لا يعرف عن الجبهة شيئًا. غربة باول في إجازته هي نقطة التحوّل الكبرى في حياته: بدأ يدرك حقّ الإدراك أنّ حياته باتت هناك، في الجبهة، حيث الأشلاء والرصاص والنار والغاز؛ حيث لا تكون الأحلام الغبيّة بأراضٍ تُتقطَع من هذه الدولة أو تلك، بل أن يُختزَل الوجود كلّه في جسدك وجسد رفاقك، بل وفي أجساد البيادق كلّها على اختلاف جنسيّاتهم وانتماءاتهم. ليس الأعداء في الحرب بل في المدن والقصور المتخمة بالحياة. وكلُّ لحظة نجاة في الحرب باتت تعني سرقة هذه اللحظة من عدوّك الذي كان، ورفيقك في الموت الآن.أن تسرق وجودك. هذا هو الهدف الوحيد الذي بات عشرات آلاف الشبّان يعيشونه في الحرب، وهم يدركون أنّ مصيرهم محكوم بالصدفة. ستعيش بالصدفة، وتموت بالصدفة، ويُبتَر جسدك بالصدفة. ليس منهم من سوف «يُعمَّر فيهرم»، إذ إنّهم هرموا وانتهى الأمر. باتوا على هامش الحياة التي لا تعترف بالبيادق. هم محض أرقام لا أكثر. الجنديّ رقم كذا، سيصبح السرير رقم كذا في المشفى، وربما القتيل رقم كذا في أحد المدافن الجماعيّة. مع اقترابنا من الصفحات الأخيرة سنبدأ اكتشاف معنى البرقيّة الرسميّة التي ستُلخّص حياة باول بويمر بأكملها. مات وحيدًا بعد موت رفاقه كلّهم. الصدّفة لعبت دورها مرةً أخرى لتجعله يموت في يوم هادئ لن يُكدّر الجنرالات والملوك، يوم هادئ على الجبهة ليس فيه إلا موت بيدق لن يهمّ أحدًا. لا جديد في الغرب، لا جديد في الشرق، لا جديد في الشمال، لا جديد في الجنوب. قد يموت عشرات، أو مئات، أو آلاف، أو ملايين. لا يهم. ما يزال لدينا سبعة مليارات من البشر محكومون بالصدفة ليس إلا. نجت رواية ريمارك بعد أن أحرقها هتلر من بين ما أُحرق من كتب تندّد بالحرب. لعلّها صدفة أخرى. ولكن هناك أعمال وكلمات كثيرة أحرقتها صدف أخرى لأنّها «توهن نفسيّة الأمة»، لو استعرنا العبارة الحمقاء التي تردّدها الأنظمة على اختلافها. يرى ريمارك أنّ روايته ليست إلا «محاولة فقط لحكاية ما حدث لجيلٍ دمّرته الحرب – حتّى وإن كان قد نجا من نيرانها». ولكن هل نجوا حقًا؟ هل نجونا؟ هل سننجو؟ 



المصدر

التعليقات مغلقة.