موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

قصة قصيرة..رهان

د .زهـدي الـداوودي ///

alt

 

 

 

 

كنت آنذاك في زيارة للوطن بعد إنقطاع دام عدة سنوات، تصاعدت خلالها درجة الحنين من كلا الجانبين، جانب الأهل وجانبي، إلى درجة لا تحتمل. كنت قد قررت أن أبقى في الوطن لمدة لا تتجاوز ثلاثة أسابيع، قابلة للزيادة والنقصان على أن أبلغ شركة الطيران عند حصول أي تغيير في موعد العودة. كنت أتصور أنني أتمكن من زيارة كافة ألآقارب والأصدقاء والاطلاع على معالم العديد من القصبات والمدن في فترة الأسابيع الثلاثة التي تكفي لتنفيذ برنامجي الاستطلاعي.

بدا لي إن حساباتي خاطئة، بل وخاطئه جدا، إذ إنني لم أحسب حساب إرتباطي بأهل كبير وعشيرة واسعة، تتلهف لزيارة أبنها البار ورؤيته وتبادل الحديث معه والجلوس بمعيته لساعات غير قصيرة، والاستفسار عن حياته ومعيشته ومعيشة السكان في بلاد الغربة التي يسمونها ألمانيا. كانت الزيارات تبدأ في التاسعة صباحا وتنتهي حوالي الحادية عشرة مساء، لتتكرر على نفس المنوال في اليوم الثاني. كنت ملتصقا بمكاني لا يمكنني مغادرته إلا لقضاء حاجة ضرورية. ذات يوم حلت الفرصة السانحة لمغادرة البيت والتمشي بعض الشئ باتجاه المقبرة لقراءة الفاتحة على قبر الوالد واستعادة الذكريات. كان ذلك في الساعة العاشرة والنصف قبل الظهر، حين خلى البيت بقدرة قادر من الضيوف. عندما أحست والدتي بنيتي، راحت تعاتبني لقلة ذوقي بعدم استقبال الضيوف الذين يمكن أن يظهروا في أية لحظة:

“عيب يا بني. كيف تدير ظهرك للضيوف. إنهم يأتون لزيارتك إحتراما للعائلة ولك شخصياً. لا تخذلهم يا بني. يمكنك أن تتمشى في باحة البيت”

” أنا لا أدير ظهري للضيوف يا أمي. أنا بحاجة إلى حركة. ألا يحق لي أن أزور قبر المرحوم والدي وأقرأ عليه الفاتحة؟”

قالت وهي مشغولة بالطبخ في الهواء الطلق للضيوف:

” هيا تحرك إذاً بسرعة، سأبلغ الضيوف بأنك في زيارة قصيرة للمقبرة. وعليهم أن ينتظروك”

في فترة غيابي التي لم تستغرق نصف الساعة، حضر بعض الضيوف الذين لم يعجبهم خلو البيت من المضيف أو الضيف القادم من بلاد الغربة. وراحوا يتندرون بسلوك الولد الذي لم يسر على نهج أبيه وفقدانه لتقاليد العشيرة في بلاد الغربة. ولولا تدخل الأم وإعلامهم بموضوع زيارة القبر وقراءة الفاتحة لما أتخذوا أماكنهم في غرفة الضيوف، بل رجعوا إلى حيث أتوا بخفي حنين. هكذا تظاهروا بالأمر، بيد أن الصبي أبن أختي المكلف بخدمة الضيوف مثل تقديم السيكاير والقهوة لهم، قال شيئاً آخر. قال أنهم جاؤا كي يلقوا الأنكر ولن يتركوا المكان حتى لو طردتهم وأشبعتهم بالركلات على مؤخراتهم.

قلت له وأنا أهدئه للتخلص من الغضب الذي ساوره بسبب تعليقاتهم علي:

” كن هادئاً يا بني. إنهم ضيوف وأقارب”

كانت الأسئلة تلقى جزافاً، ولكنني أحسست أن أجوبتي غير مقنعة وأنهم لا يصدقون ما أقول:

” هل هناك مهنة الفلاحة؟”

” نعم”

” هل عندهم أبقار وأغنام؟”

” طبعاً”

” ما كمية الحليب التي تدرها البقرة الواحدة؟”

” كمية الحليب تختلف من بقرة إلى أخرى. البقرة الخاصة لانتاج الحليب مثلا تدر أربعين لترا في اليوم الواحد..”

نزل عليهم جوابي كصاعقة خيالية. رفع أحدهم كلتا يديه إلى أعلى ولطم بهما رأسه وهو يقول:

” هذه ليست بقرة يا قوم، بل نهر الزاب”

وقبل أن يكمل الرجل كلامه، بادر أحدهم قائلا:

” يا عزيزي يا ملا صالح، هل يمكنك أن تخبرنا عن حجم هذه البقرة التي لابد أنها أكبر من الفيل؟”

استنتجت من طرح السؤالين أنهم لا يصدقون كلامي وأنهم بدأوا يتندرون به. قررت في داخلي أن اقنعهم بحقيقة مظاهر الحياة المتطورة في بلاد الغربة قلت:

” أن البقرة ليست بحجم الفيل، ولكن هناك أشياء، إذا ذكرتها لكم، لن تصدقوني ولذلك أحتفظ بها لنفسي”

ارتفعت أصوات المطالبة بالكلام. قلت في نفسي أنهم في كل الأحوال سوف لا يصدقون كلامي، ولذلك قررت أن أذكر لهم حقائق من الوزن الثقيل الذي لا يتحمله خيالهم المرتبط بواقعهم المتخلف فليعلقوا كما يشاؤون:

” هناك سفينة تحمل ثمانين سيارة وقطار مع مئات المسافرين”

أطبق عليهم الصمت وهم يشدون عيونهم إلى السقف بسخرية ملحوظة. وتعني هذه الحركة عندهم، كذبة كبرى قد تؤدي إلى انهيار السقف. عندها انتبهت في زحام الضيوف إلى أبن عمي وهو يناقش جاره بصوت خافت وحالة عصبية وتصورت أن سؤالا أو تعليقاً ما يهزهما، ولكنهما يخجلان من طرحهما. وحين حركتهما لطرح السؤال أو التعليق، أنبرى حميد قائلا:

” الحقيقة يا ملا صالح، أنا وهذا الشخص الجالس إلى جنبي قد تراهنا منذ صبيحة اليوم على موضوع، إذا وافقت سنطرحه عليك كي تحسمه لنا. ظننت أن الموضوع عبارة عن مقلب، بيد أن اسلوب النقاش الخافت والجاد بين الأثنين قد أوحى إلي أنهما صادقان، قلت:

” تفضلا. أنا أسمعكما”

قال حميد:

” أحدنا يصر على أن أهل بلاد الغربة التي تعيش فيها أنت كلهم عرب والآخر يصر على أنهم عرب وأكراد، فماهي الحقيقة؟”

اعتقدت في باديء الأمر أن هذا مقلب آخر من مقالب حميد، ولذلك قررت أن أشترك في اللعبة، قلت:

” إنهم بالطبع عرب وأكراد”

وحين قفز حميد فرحا ومعلنا عن فوزه وموجهاً كلامه إلى صاحبه:

” يا أبن ال… ألم أقل لك أينما وجدت العرب، وجد الأكراد؟”

تبين لي أن المسألة أبعد بكثير من مقلب برئ.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.