موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

انتظـــــار الفيــــظ

 

قصة قصيرة                                                               
بقلم: الاستاذ علي أسماعيل حمة الجاف
 
انتظـــــار الفيــــظ  

 

لم يكن العثور على النهر امراً صعباً رغم كون الصيد ممتازاً، كما توقعت، وبعد ان فحصت شراكها في اليوم التالي، وجدت طائريين. ظلت اياماً عديدة تنتظر رغم الظمأ و الغيض والمرظ. بمسافة ليست ببعيدة كان هناك بلبلاً يغرد باغنيةً زحيقة على شجرة الصنوبر وبعدها جاء وحط على قبعة سترتها. قبلت منقاره برقة. كان يساعد احدهما الاخر. لقد دفأته وأطعمته وكان هو يسع الحرارة في قبعتها، لكن الاهم في هذا كانت همساته تمنع عنها الوحدة القاتلة. زحقت على الارض ظلال برتقالية وارجوانية، عندما غربت الشمس ذلك المساء وزحفت “مبسم” الى سريرها، تتلمس بيدها الفراش، وهي تلاحظ ان النهارات بدات تقصر. شعرت بقلق ووحدة وهي مستلقية على الفراش. وعند منتصف الليل، استيقظت وتنظر الى السماء. تلألأت نجمة في القبة نصف المضاءة. انها اول السنة! ابتسمت، جلست تفكر ووضعت ركبتها الى صدرها. بعدها، اصغت لتسمع صوت الكمان ثم تذكرت عزف “وسيم” بالمزمار. وجوفت يديها ووضعتها خلف اذنيها، واصغت بتوق. نعم. انها الطيور المهاجرة تغني ايضاً غناء يبدو مثل غناء البالغين … انه سرب من بط مهاجر. اصغت لتسمع “وسيم” لم يفعل. وانتهت الحفلة الموسيقية على نحو مفاجئ، وسمعت اصواتاً اخر في الظلام وتحرك شي ما فجاءةً. اندفعت من فراشها، وقبضت على هروتها. خشخشت الحشائش خلفها، واستدارت حولها. اهتزت النباتات لتقول انها الريح ليس الا. “نعم.” كانت تتقزز من مخاوفها. ضربت حجارة لتغير شيئاً، ما دامت لاتستطيع ان تغير ما عزمت عليه. بعد ان شعرت بحالة افضل، استسلمت عائدة لفراشها … انتظرت النوم … واثلجت الريح جسدها العاري فتوقفت لتستجمع افكارها … تذكرت انها في امان فسارعت واخرجتها بسرعة، وضعتها الى صدرها وهي ترتعش. استلقت ساكنة تماماً متسائلةً: كم يستغرق من الوقت، لاجدهُ؟ وفي اليوم التالي، امن السفر لها من قبل “وسيم” فحزمت “مبسم” ممتلكاتها القليلة في حقيبة مصنوعة من جلد الموظ، وذهبت الى المطار مع السيدة العجوز التي كانت تجر نفسها جراً خلفها، تسير بخطوات بطيئة، وعندما وصلت المطار بعد وقت كانت تعرج. “ماذا سافعل عندما لااستطيع مغادرة الفراش؟” قالت ذلك بغضب. نظرت بحذر الى مواد التنجيد، الاضوية المعلقة فوق الرأس والباب المفتوحة المؤدية الى مكان الطيار، ثم اغلقت عينيها. لقد كانت خائفة من ان الطائرة قد لاتطير حقاً. هدرت المكائن، تحركت السفينة، وبعد دقائق فتحت عينيها لتشاهد بيوت تنكمش الى بقع صغيرة، والجزيرة تصغر، وعندما صارت مثل جوهرة في البحر تحسست مقعدها وكرسيها ذا الذراع، وحدقت في نفسها. “انا جالسة في السماء!” “ما الذي يبقينا هنا، عالياً؟” ساْلت الرجل الجالس بجانبها. “ذلك ليس سؤلاً جيدأً” قال الرجل بطرف عينيه. الزمت السكوت. بعدها افاقت من نومها ونشب عراك عنيف بينهما. خرج يجرى خارج البيت. اخرجت ثوبها الاحمر من صندوق على الرف، لبست قميصاً دافئاً وارتدت سترة زفافها وسروالها. بعدها فتحت صندوقاً اسفل السرير، والتقطت زوجاً من الجوارب الصوفية الدافئة. بعد ان دست قدميها في حذائها، ربطته بالشرائط الوردية. ومع كل ميل قطعته، كانت تشعر بانها تبتعد عن الحيوانات البرية. وعندما لم تشاهد “الظفر” اي اثر، عرفت انها قد وصلت الى البشر. ادركت حينها انها بحاجة الى مخيم بسب الفيظ، النظاظة و الغيظ، وهناك نصبت مخيماً، عليها ان تفكر فيما تريد ان تفعله. عندما فكرت في “اليوطوبيا” فكرت في الطائرة، النار، الدم، الومضات، الشوظ والموت. لقد عرفت ما عليها ان تفعل. وفي اليوم التالي، اخرجت سكينها وصنعت منها بيوتاً كبيرة، وليس مخرد مخيم. وعندما انهت بناء بيتها الفاخر، كان الوقت يمر، حلت ورحلت، والقمر كبر وانمحق مرات عديدة. وجدت “مبسم” حياتها مرضية تماماً. كانت سعيدة وبائسة في الوقت نفسه. وفي وقت الفراغ، كانت ترقص، تخيط، تقطع الاشجار وتصنع شموعاً او تتهجأ كلمات انكليزية مثل هذه الكلمات الحلوة يجب ان تحفظ الى الابد. وفي احدى الليالي، بدات تصنع سترة صغيرة من ريش البط. ثبتت الريش بجلد ارنب رقيق مثل الورقة، عند طلوع القمر، عندما انتهت من صنع السترة، وكانت تحاول ان تلبسها. سمعت من بعيد طقطقةٌ اقدام، ازداد الصوت. ومدت راسها لتشاهد في الليل رجلاً على النهر يركض. تصاعدت ضربات قلبها. حقاً! انه رجل. اندفعت نحو النهر. وانتظرت حتى اقترب الرجل. صاحت: “رجل!” “رجل!” عند ذاك لعق ذنبه بين ساقيه وانسل مبتعداً بخفة. واجلبها صوت اخر. وفي غضون دقائق كان الصياد يسحب زلاجة بجانبها، ويحيها بحرارة. وكانت زوجة الرجل وطفله ملفوفين بالفراء. كانت عيونهما تلتمع برقة في ضوء القمر. لكنها تدبرت امرها في تحيته بسعادة ودعتهم الى بيتها للنوم. لقد اخبرت “مبسم” انهم لم ياخذوا قسطاً من الراحة منذ يومين. اسمي “ويتنك” قال الرجل بالانكليزية، وهو يضع فراش النوم على ارض الكوخ ويفرشه. “هل انت وحيدة؟” ابتسمت “مبسم” في وجهه، وكأنها لم تفهم، ووضعت لوحين من خشب الصنوبر فوق النار. وعندما تأججت، واخذ الرجل والمراءة يدفأن ظهريهما، سألها “ويتنك” من جديد، فأجبت انها كذلك. اسمي”فيت” قالت الام اللطيفة. تحركت “مبسم” بيأس. قالت المراءة وهي تؤشر الى نفسها. “ويتنك”. قالت ذلك وهي تؤشر نحو الرجل، ثم رفعت الطفل فوق راسها، ونادته “موون”. وجدت “مبسم” ان الاسماء لطيفة جداً، لدرجة انها اخذت قدر الطبخ من النار لتعطي ضيوفها فأراً حاراً … غمغمت وعنت. ثم ذهبت الى فراشها. عندما انتهى تناول الطعام تحدث “ويتنك” ببطْ ونعومة تعرفت “مبسم” انه من قرية “اوبرتيونتي” ذات مطار ومدرسة تبشيرية وفيها محطة كهربائية … وبيوتها تضاء بالمصابيح شتاءً. حتى ان القليل من الرجال يملكون سيارات ثلجية. كان “ويتنك” فخوراً بمدينته. ارضعت “فيت” الطفل، دفائته بالفراء. وغنت له برقة لينام، بينما كانت النار تذبل. اومأت برأسها وانسلت الى الفراش، حيث لحق بها “ويتنك” وكانت “مبسم” الوحيدة المستيقظة في ذلك الليل الطويل. صور “وسيم” تملا رأسها … لم تستطع النوم لعدة ساعات. استيقظ كلبها اولاً ونادى برقة. ارتدت “مبسم” ملابسها، قطعت قطعة من اللحم، واعطتها له، اختطف الطعام وابتلعه صاخباً. ذلك قد ايقض الطفل، والطفل ايقظ والدته التي اخذته الى صدرها وهزهزته وهي مستلقية في حرارة الفراء. لقد كانت الدرجة صفراً في البيت، ولم تكن مستعجلة ومستعدة للنهوض من الفراش … استيقظ “ويتنك” تثاءب وهدر. “انا جائع” قال الاب. ضحكت “فيت” ووضعت “مبسم” القدر فوق النار. ارتدى “ويتنك” ملابسه وشاهدت “مبسم” كم كانت خائبة. نظفت “مبسم” المكان بينما كانت “فيت” تلعب مع طفلها. عندما كانت تضمه كانت تتحدث بسعادة حول حبها “لويتنك” وكيف كانت تواقة: توقفت “مبسم” عن تنظيف قدرها، تدفن دماً حاراً ثم برد. في هذه الاثناء، تحدثت “فيت” عن زوجها قائلةً: نشأ في “اوبرتيونتي” ولايعرف سوى الشي القليل عن الصيد، اذ كان ابوه ميكانيكياً. غير انه مات، فارسل “ويتنك” ليعيش مع جده في “اليوطوبيا” وقد ولع بالصيد وصيد الاسماك، واصبح ماهراً. علم “ويتنك” اين تعيش الفقمة، وكيف يشم اثر الغزال. “اين يسكن؟” سألت “مبسم”. … نعم، ولكن ليس في مركز المدينة، حيث يعيش الاثرياء. انه يعيش في بيت اخضر بسيط، عند ضفة النهر. انه عند ضفة النهر. انه عند اعلى النهر، بجانب البرية، حيث يشعر الناس الذين يحبهم بحرية الزيارة. اهتزت شوقاً، فسألت “مبسم” ان تخبرها المزيد عن “ويتنك” فأخبرتها “فيت” التي تحمست اكثر عن المدينة وسكانها الذين اصيبوا بالفقر والجوع قبل عدة سنوات. اختفى الفظ كله من الشاطئ، الحيتان الرمادية صارت نادرة، والفقمات قليلة … ثم وصل “ويتنك” كان مليئاً بالزهو، يرفع رأسه عالياً. ذهب الى البرية وعاد بثيران المسك … رعاها وكاثرها ساعده الرجال، وتغزل النساء الفراء لتصنع منه الملابس الجميلة. واخيراً، انت فرحة. هزت “مبسم” رأسها. عانقتها “فيت” ثم خرجت لتلتحق بزوجها وطفلها في يدها في تلك الظلمة ينيرها ضوء النجوم. وضعهما في الزلاجة، وشكرا “مبسم” وانطلق. ظلت تحرك يدها حتى غابوا في الظلام. ثم اندفعت الى بيتها، ودخلت فراشها ترافقها الوحدة والتعاسة بحيث ان الطعن كان كالشوظ. لمضت وزعقت. التقطت الريح ثلماتها، ونفحتها اسفل النهر. انقضت مبتعدة، وسارت الى أعلى النهر. نادت من الضفة، ثم ذهبت. قالت “مبسم” لكلابها كلاماتها الاخيرة. فكرت في “وسيم” فاسرعت. ماذا ستقول له؟ هل سيمسحان الانوف عندما يلتقيان؟ انه بالطبع سيحضن ابنته المفضلة وتدخل بيته، تدبغ جلوده وتخيط ملابسه وتطبخ طعامه. هنالك الشي الكثير الذي تستطيع ان تفعله لهذا الصياد العظيم الان؟ تهي الغزال، تمسك الارانب، تنتف ريش الطيور، ويعيشان كما يجب ان يعيشا – مع البرد والطيور والحيوانات. حاولت ان تتذكر وجه “ويتنك” عينيه السوداويتين، حاجبيه المنسدلين بحنان. هل ان خديه مازالا قويين ويتفضان عندما يضحك؟ هل مازال شعره طويلاً ويقف منتصب الطول؟ تمنت لو كان بقربها في بيتها … احيطت بشرارت النيظ والمرظ وزمجر النهر.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.