موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

لقطة "أصحاب ولا أعز" وأهل مدينة "كُوس"- وكالة ذي قار



فليُسامِحني
القارئُ الكريم لأنني أبتدئُ هذا المقال بواقعةٍ شخصيّةٍ قد تبدو للوهلة الأولى بعيدةً
عن الموضوع الذي يقترحُه شَطرا العنوان!

منذ
ثمانية أعوامٍ فاجأني صديقٌ طبيبٌ شرَّفني بقراءة روايتي القصيرةِ الأولى، بتحفُّظه
على مشهدٍ في الروايةِ يستيقظُ فيه أحدُ أبطالِها الشعراء الأربعة من نومه صباحًا ليدوِّن
في دفترِه سطورًا من قصيدةِ نثرٍ، وحين تحيطُ عنقَه بذراعَيها خادمتُه التي يطارحُها
الغَرامَ يضعُ القلمَ في فمِها، فتحاولُ قراءةَ ما كتبَه ثُمّ لا تلبثُ أن تفصِحَ له
عن عدم فهمِها أيَّ شيء. قال صديقي إنّ وضع القلم في فم الخادمة العشيقة بهذه الطريقةِ
يُعَدُّ إشارةً جنسيّةً صريحةً، وإنه بذلك لا يأمنُ أن يضعَ كتابي على أرفف مكتبتِه
خوفًا من أن يقعَ في يَدِ طِفلةٍ ذاتَ يومٍ فتقرأَ مِثلَ ذلك.

أطعتُ
غريزةَ الدفاعِ عن الموقِف ساعتَها وجادلتُه بأنّ المفترضَ أن ينسِّقَ الكبارُ مكتبتَهم
بحيثُ لا يصبح كلُّ شيءٍ في متناوَلِ كُلِّ إنسانٍ، وبأنّه حتى لو وقعَ الكتابُ في
يد طِفلةٍ، فلا يُفترَضُ أن تفهمَ الإشارةَ إلا إذا توافَرَت بعد بلوغِها سِنًّا ما
على معارفَ معيَّنةٍ تسمحُ لها بهذا الفهم. لم يَطُل جِدالُنا، لأنَّ كِلَينا اقتنعَ
بأنّ موقِفَ الآخَرِ لن يتغيَّرَ كثيرا. لكنّ ذلك لفتَ انتباهي إلى أنّ رقيبي الدّاخِلِيَّ
في الكتابةِ لا يَرقَى إلى المرتبة الخُلُقيّةِ التي يرتضيها قِطاعٌ كبيرٌ من القُرّاء،
وأنني رغمَ تحفُّظي النسبيِّ أبدو لكَثِيرين متحرِّرًا من الوازع الخُلُقيّ فيما أكتُب،
وأخيرًا أنّني لن أكمِّمَ فمَ صديقي ولا أملِكُ منعَه من إبداء ملاحظةٍ أخلاقيّةٍ على
عملي الفنّيّ، خاصّةً أنه لم يَدَّعِ أنّه يقدّمُ لي نقدًا للرواية بصفتِها نَصًّا
أدبيًّا، وإنما يُبدي تحفُّظًا على المُحتَوَى بغضّ النظرِ عن أدبيَّتِه.

هكذا
نجِدُ أنفسَنا في قلبِ الجدَل الدائرِ حول فِلم (أصحاب ولّا أعز) الذي بثَّته منصّةُ
(نِتْفلِكس) حديثًا، وكان أولَ فِلمٍ عربيٍّ تنتجُه المنصّة، كنسخةٍ من الفلم الإيطاليّ
(أغرابٌ تماما Perfetti Sconosciuti) وذلك المشهد بالتحديد الذي تتخفف فيه إحدى البطلات
مِن قطعةٍ من ملابسِها الحميمة.

اليوم
سمعتُ ممرّضةً زميلةً تستنكر ذلك المشهدَ بشِدّة، وتردّد قاصدةً الفنانة (منى زكي):
“خصوصًا انها هي مش كده، وعمرها ما كانت كده.” وكانت تعني بالطبع أنّ فنانتَنا
لم تُعرَف مِن قبلُ بتقديم مشاهد الإغراء والإثارة. وأعرف أنّه على امتداد هذا الخطّ
الغاضبِ هناك مَن يَنفُون عن الفِلم صفة الفنّيّة مِن الأساس طالما أنه احتوى مِثلَ
ذلك المشهد، ما يذكِّرُني بمنشورٍ دَعَوِيٍّ قرأتُه، يستنكرُ فيه كاتبُه تسميةَ الممارساتِ
المنحلّةِ بغير أسمائها، فيقولُ بينَ ما يقولُ: “وأصبحَ الغِناءُ فَنًّا؟”!

على
الجانبِ الآخَر هناك الكُتّاب والفنّانون الذين يرفضون رفضًا باتًّا أن يُحاكَمَ العملُ
الفنيُّ على أساسٍ أخلاقيٍّ أو دينيّ.

وهذا
المقالُ – أرى من واجبي أن أوضحّ ذلك رغم أنه واضحٌ كالشمس – ليس مقالًا في النقد السينمائيّ،
فأنا لم أشاهد الفِلم، وَليَصبِر مَن أعرفُ أنهم سيتسرّعون إلى نفضِ أيديهم منه، فحديثي
عن مدى مشروعيّة إطلاق حُكمٍ أخلاقيٍّ على العمل الفنيّ، لا عن الفِلم ولا عن وظيفة
هذا المشهد في بنائه، ولو كنتُ أقصد كتابةَ مقالٍ عن الفِلم لَما تطرَّقتُ أصلًا إلى
هذه المشكلة الواقعةِ على تُخومِ مملكتَي الفنّ والأخلاق.

يحدّثُنا
(وِل ديورانت) في الفصل الذي أفردَه للحديثِ عن پرَكْسِتيليز Praxiteles أشهر مَثّالي الإغريق في القرن
الرابع قبل الميلاد، عن عهد مدينة (كوس Kos) لهذا الفنانِ عام 360 ق.م
أن ينحِتَ لها تمثالًا للرَبّة أفروديتي، فأنجزَ التمثالَ على صورةِ عشيقتِه البَغِيِّ
الشهيرةِ (فريني Phryne)،
ولكنَّ الكوسيِّين ساءهم أن وجدوا الرّبّةَ مجردةً من الثياب، فما كانَ من پرَكْسِتيليز
إلا أن هدَّأَ ثورتَهم بأن صنعَ لها تمثالًا آخَر مكتسِيًا، وابتاعت مدينة (كْنِيدُس Knidos)
التمثال الأول.

لقد
مثَّلَ هذا التمثالُ العاري لابنةِ كبيرِ أربابِ الأولمپ سابقةً في فن النحت الإغريقي،
فكما يحدّثُنا (ديورانت)، كان نحتُ القرن الخامس يصوّرُ الجسدَ الذكوريَّ عاريًا في
شكلٍ من أشكالِ عبادة القوّة العضلية آيةِ البطولة، ما اصطُلح على تسميتِه بالعُري
البطوليّ Heroic Nudityأما الأنثويُّ فكان دائمًا مستورًا، ولذا كان ما فعلَه پرَكْسِتيليز
ثوريًّا بالنسبةِ للفنّ، تجديفًا وخروجًا عن اللياقةِ بالنسبةِ للأخلاقيين والوَرِعِين.

عَودًا
إلى لقطة الفِلم، أرى أنّ استنكارَ المثقَّفين لاجتراء قطاعٍ كبيرٍ من الجمهور على
إبداء ملاحظةٍ أخلاقيّةٍ عليها، هو استنكارٌ ينطوي على مغالطةٍ منطقيّةٍ أساسيّةٍ،
وهي أنّ الخِطابَ المتكرر لدى معظَم أصحاب الملاحظة الأخلاقية لا يَزعمُ أنه يقدّم
نقدًا سينمائيًّا، وإنما يهتمّ بما يجوز وما لا يجوز أن يُقدَّمَ على شاشةٍ تدخُلُ
البُيوتَ في مجتمَعٍ له تقاليدُ وأعرافٌ معيَّنة. ومن هنا فلا مجالَ لمقولة “لا
يمكن الحكم على العمل الفني من زاوية الأخلاق”، خاصّةً أننا لن نعرفَ أبدًا الحدّ
الفاصلَ بين ما يمكنُ أن يدخُلَ فيه الحكمُ الأخلاقيّ وما لا يمكن أن يدخُلَ فيه، وهو
على الأرجح حكمٌ مستبدٌّ لا يعترفُ بأنّ ثمّةَ ما يخرُجُ عن دائرةِ اختصاصِه.

والحُكم
الأخلاقيُّ في ذلك يشبهُ الفنّ تمامًا، فالفنّ هو الآخَر لا يعترفُ بمنطقةٍ حصينةٍ
ضدَّ مغامراتِه، ولدينا مِثالُ تمثالِ أفروديتي لـپرَكْسِتيليز، فقد اقتحمَ الفنّانُ
به حَرَمَ المَعبَدِ مرّةً واحدةً، وأنزلَ إلى عالَم الشهوةِ الجسديّةِ ربّةَ الأولِمپ
مِن عليائها (بالنسبةِ لوثنيّي كُوس المتديِّنين بالطبع).

ومن
التسرُّع أن نحاكمَ الاستنكارَ الأخلاقيَّ الذي عبَّرَ عنه الناسُ، لأنّ الوازعَ الأخلاقيَّ
ليس بغريبٍ على الفنانين المخلِصين للفنّ أنفسِهم، فالأخلاقُ بوظيفتِها الرَّدعيّة
النّاهِيَةِ تمثّلُ نزوعًا إنسانيًّا أساسيًّا كما يمثّل الفنُّ بوظيفتِه الاقتحاميّةِ
الباحثةِ عن اللذةِ نزوعًا إنسانيًّا مضادًّا في جوهرِه ووِجهتِه.

وها
هي الفنانةُ (كِات وِنسلِت) تقِفُ وقفةً مباغتةً لتعلِنَ امتناعَها عن أداءِ المزيد
من مشاهد العُري التي عُرِفَت بكثرةِ أدائها لها. هكذا بين عشيّةٍ وضُحاها!
Kate Winslet said she’s done stripping down
for nude scenes

وعلى
الجانبِ الآخَر، ينبغي ألّا يتسرّع الرافضون لهذا المشهد في وصم الفِلم بالكاملِ بأنه
يحملُ رسالةً ضدّ الأعراف المجتمعيّة المكرَّسَة، فمن نافلة القولِ أن رسالة العمل
الفني النهائية – وإن كانت دائمًا بحُكم إنسانيتِها قابلةً لتعدّد التأويلات – لا تتحدد
إلا بالنظر إلى العمل في كُلّيّته، لا في جزءٍ منفصِلٍ منه.

لا يهدفُ
مقالُنا هذا إلى حسم الجدال، لأني أراه هدفًا بعيدَ المنال، وإنما ينحصِر هدفُه في
إطلاع كلّ فريقٍ على مشروعيّة موقفِ الفريق الآخَر. وسواءٌ اتَّفَقنا على أنّ الحلَّ
يكمُن في تصنيف ما يُعرَض على الشاشةِ ويَدخُل البيوتَ بحسَب الفئات العمرية الموجَّهِ
لها العمل – كما يحدثُ في السينما – أو اختلَفنا، فإنّ الجدالَ سيستمرّ إلى ما شاء
الله.

ولعلّنا
نتأمّل موقفَ زميلتنا القائلة “هي مش كده، وعمرها ما كانت كده” فنَجِدُ فيه
صدىً لموقفِ أهلِ (كُوس) الذين ساءَهم أن يجدوا معبودتَهم على غير ما يليقُ بها من
وقارٍ في نظرِهم. هكذا ارتبطَت فنانتُنا في الوعي الجمعيّ للجمهور المصريّ البسيطِ
بدَورِها في مسلسل (الضوء الشارد)، حيثُ جسَّدَت (فرحة) الفتاة الشريفة العفيفة ذات
الأصل الطيب والعائلة البسيطة التي تشبهُ قطاعًا عريضًا من عائلات المصريين. لا غَروَ
والحالُ هذه أن يَغارَ الناسُ على (فرحة) كما استنكفَ أهلُ (كوس) أن تتعرّى أفروديتي.
كلُّنا أهلُ كوس بدرجةٍ ما أو بأخرى!



المصدر

التعليقات مغلقة.