موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

بين كسرة البدو وضمّة الفلّاحين …- وكالة ذي قار



يفرّق
روكس بن زائد العزيزي في موسوعته “معلمة للتراث الأردني” بين لهجتي البدو
والفلّاحين في الأردن عبر تمييز سمة صوتية فاصلة بينهما، وهي الميل إلى تغليب كسر حركة
أوائل الكلمات أو ضمها. فالبدو يميلون إلى كسر أوائل الكلمات وينفرون من الضم، وفي
حال صعب عليهم التحوّل من الضم إلى الكسر مالوا إلى الفتح. بينما نجد الفلّاحين يفعلون
العكس، فهم يميلون إلى الضم وينفرون من الكسر؛ فالبدوي يقول (قِمْ) بدلاً من (قُمْ)
و(كِلْ) بدلاً (كُلْ)، أمّا الفلّاح فيقول (قُوم) و(أُكِل)(1).

وإن
كان البدو والفلّاحون ينفرون من الرفع “فلا تسمعهم يرفعون اسمًا أو فعلاً مضارعًا
على أية حال”(2)، فإن البدو ينفرون أيضًا من ضم ياء المضارعة(3) في الوقت الذي
لا يجد فيه الفلّاحون صعوبة في ضمها في مواضع تتطلّب الفتح مثل (يُكتبْ) بدلاً من
(يَكتب) و(يُعبدْ) بدلاً من (يَعبد)، فيما يلفظها البدو (يِكتبْ) و(يِعبدْ). أمّا فيما
يخص الكلمات التي تُميّز في العربية الفصيحة بالضم، فإنّ أهل شمالي الأردن (الفلّاحين)
“يستخدمون الضّم كما تستعمله الفصحى: فيقولون (فُجل)(4)، كما أنهم “قد يرتجلون
ضمّة لأسماء ليس فيها ضم كقولهم: (بَغُل)”(5).

وإن
كانت اللّهجة مثل الكائن الحي قابلة للتطوّر والتغيّر، وهي لا تتوقّف عن استيعاب كلمات
جديدة والتخلّص من أخرى قديمة(6)، إلّا أنّ السمات المفصلية للّهجات تأخذ وقتًا طويلاً
في التشكّل وهي غير قابلة للتغيّر في وقت قصير. ونستطيع أن نقول، بناءً على ملاحظات
العزيزي، إنّ الميل إلى الكسر من السمات المميزة والمفصلية للّهجة البدوية عن لهجة
الفلّاحين التي لا تتغيّر في وقت قصير. فإذا كان لدينا جملة مثل “قُمْ قُدْ الفرس”
وأردنا تمييز أصول مجموعة من الأشخاص من خلال لهجتهم، فإن البدو منهم سيلفظونها
“قِم قِد الفرس”(7)، بينما الفلّاحون سيلفظونها “قُوم قُود الفرس”.

وهناك
مثال شائع بين العامة يوضّح أهميّة هذه السِّمة في تمييز البدو عن غيرهم من الفلّاحين
والحضر بواسطة اللّهجة؛ إذ يُشاع في أوساط الأردنيين أن جيش البادية يختار منتسبيه
بناءً على امتحان لهجي يسمّى امتحان البَصلة. إذ يقوم الممتحن بعرض البصلة أمام المتقدِّم
ويسأله: ما هذه؟ فإذا قال: (بَصلة) أو (بَصل) بالفتح فهو حضري أو فلّاح، أمّا إذا قال:
(إِبْصله) أو (بِصل) أي بدأ بالكسر فهو بدوي، وبالتالي يتم قبوله لاجتياز الاختبارات
البدنية والطبيّة اللاحقة.

ويرى
العزيزي أنّ سبب ميل البدو إلى الكسر يعود إلى عامل نفسي، فقد أورد ابن منظور في
“لسان العرب” معلومةً تفيد بأن العرب مالت إلى الكسر تفاؤلاً، وبناءً على
ذلك يعتقد العزيزي أن البدو هربوا من الضم لأنهم “توهموا أن الضّم دليل على قبض
اليد الذي هو من علامات الشُح والجبن إذ هم يقولون: (فلان الله يسهِّل عليه إيده امقربطة
…) أي يده شديدة الانقباض. ولا عجب، فقد مال أجدادنا قديمًا عن الضم إلى الكسر للتفاؤل”(8).
ويصل إلى الحكم بأنّ “الضم عند البدو علامة شح وجبن، والفتح علامة كرم، والكسر
دليل الشجاعة، إذ يقولون: (لا افلان سبع كسّار اعظام)”(9).

وهذا
الرأي يحيلنا إلى ما سكت عنه العزيزي في فرضيته، وهو أنّ الفلاحين يفضّلون الضم على
الكسر انطلاقًا من ميلهم إلى الشّح والاقتصاد، من وجهة نظر بدوية على الأقل. وإذا ربطنا
بين الضم والقيد، فإننا سنقول بأنّ البدوي يلجأ إلى الكسر لأنه يُحب كسر القيود والانطلاق
حُرًا في الصحراء، وفي المقابل فقد نلجأ إلى القول بأنّ الفلّاح مقيّد/ مرتبط بأرضه
ووطنه، وبالتالي فهو يفضّل الضم.

إنّ
هذا الرأي، وما يتفرع عنه من آراء، يتفق مع التصوّرات الواعية ووجهات النظر المتبادلة
بين البدو والفلّاحين على المستوى الاجتماعي(10)، ولكن متى كانت اللهجة قرارًا لغويًا
واعيًا يمكن أن يُتَّخذ بناءً على موقف سابق وتتقبله الجماعة؟ كما أنّ الحديث عن ميل
إلى تفضيل واعٍ للكسرة أو الضّمة يَفترض بمجتمع الدراسة أن يكون متعلّما، وهذا ما لم
يكن متوفرًا في المجتمع البدوي، خاصة في الفترة التي يمكن أن تكون لهجته نضجت وتطوّرت،
وهي فترة العهدين العثماني والمملوكي، وهذا الأمر ينطبق على كثير من الفلاحين في تلك
الفترة رغم أنهم كانوا أكثر حظًا من البدو في هذا المجال بسبب توفر بعض الكتاتيب.

وهذا
يحيلنا إلى أنّ البدو في تفضيلهم للكسر في نطق أوائل الكلمات لا يصدرون عن قرار واعٍ
ناتج عن تمييزهم للكسر بوصفه حركة صوتية ولعلاقته بالشجاعة وكسر الخصوم ضمن دائرة المشترك
اللفظي، وذلك لأنّ البدو الذين اكتسبوا هذه الميزة الصوتية كانوا أميين لا يجيدون القراءة
والكتابة، وبالتالي فإنهم يستخدمون الحركات دون تمييز مسمياتها. أي أن البدوي يستخدم
الكسرة دون أن يعرف أنها تسمّى كسرة وكذلك الحال مع الفتحة والضمّة والسكون.

وإن
كان العامل النفسي أحد عوامل التطوّر اللّغوي، فإنه يؤثّر في التحوّلات الدلاليّة أكثر
من تأثيره في التحوّلات الصوتيّة؛ لأنّ من أبرز خصائص التطوّر الصوتي أنه تطوّر
“غير شعوري، بمعنى أنه تلقائي غير متعمّد، ولا دخل فيه للإرادة الإنسانية”(11).
أمّا التحوّلات الدلالية فيدخل فيها العامل النفسي؛ فالعرب على سبيل المثال تتحرّج
من ذكر مكان قضاء الحاجة صراحةً وتلجأ للتعبير عنه إلى الكناية مثل (الكنيف) و(بيت
الراحة) أو إلى استعارة كلمة أجنبية تعبر عنها مثل (تواليت)، وحينما تصبح هذه الكناية
هي الكلمة الدّالة بشكل راسخ على المكان يلجأون إلى استبدالها والتعبير عنها بكلمات
أو كنايات أخرى(12).

ونحتاج،
قبل أن نبحث سببَ ميل البدو إلى الكسر، أن نستعرض ونناقش الخصائص الأخرى للتطوّر الصوتي
وعوامله. ومن أبرز هذه الخصائص(13) أنه تطوّر جمعي وليس فرديًا، كما أنه متدرّج وبطيء
يحتاج عدة أجيال كي يظهر أثره، لكنه مطّرد “فالتطور الذي يصيب صوتًا من الأصوات
يسري على هذا الصوت في جميع أحواله، ويظهر أثره في جميع الكلمات المشتملة على هذا الصوت،
وعند جميع الأفراد الذين يوجدون في هذه البيئة”(14). وهو تطوّر محدود بالزمان
والمكان؛ أي أن أثره قد ينتهي مع الزمن وقد يحل تطوّر صوتي جديد محله، مثلما أنه مرتبط
ببيئة جغرافية محددة، فإذا خرج البدوي من هذه البيئة وتحوّل تحوّلاً طبيعيًا إلى العيش
في بيئة أخرى، فإنه سيفقد السمات الصوتية التي تميّز لهجته وسيكتسب السمات الصوتية
الخاصة بالبيئة الجديدة.

وهناك
أمثلة عديدة على ذلك؛ فالعائلات التي جاءت إلى الأردن إبّان الهجرات المتعاقبة تحوّلت
لهجتها -مع الزمن- وفقًا للبيئة التي نزلتْ بها؛ فالعائلات التي نزلت في البيئة الزراعية
اكتسبت لهجة الفلّاحين، بينما اكتسبت العائلات التي نزلت في البيئات التي تقوم حياتها
على الترحال والغزو لهجةَ البدو. وذلك بصرف النظر عن أصول هذه العائلات؛ فيروى في تاريخ
العشائر الأردنية قصةَ أخوين من قبيلة الخزعلي (قبيلة عراقية بدوية) جاءا إلى الأردن،
فاستقر الأول حول سيل الزرقاء قريبًا من مضارب قبيلة بني حسن وتحالف مع أبنائها واكتسب
أبناؤه لهجتها البدوية. بينما استقر الآخر في قرية أم قيس (إحدى قرى محافظة إربد) بين
الفلّاحين واكتسب أبناؤه لهجتهم(15).

وإن
كان هذا المثال التاريخي حدث في الماضي البعيد، فإنّ لدينا مثالاً حديثًا مفصّلاً:
ففي عام 1890م تقريبا هاجر فرع من عائلة الربيع (من عرب المشالخة) من مناطقهم في
“دير عَلّا” ونزل في قرية “سحم” في ناحية الكفارات (في محافظة
إربد) واستقر فيها. وإذا كان الجد الأول (واسمه علي الربيع) حافظ على لهجته البدوية،
فإنّ الأبناء اكتسبوا لهجة مخلّطة بين البدوية والفلّاحية، بينما تخلّص الأحفاد من
الرواسب البدوية في لهجتهم لصالح اللهجة الفلّاحية الخالصة، وأخذوا يميلون إلى ضم أوائل
الكلمات التي يميل البدو إلى كسرها(16).

وتفسير
ميول البدو اللهجية عند العزيزي هو تفسير مبني على سياق الفهم لدى المفسِّر؛ أي على
تصوّراته الواعية عن البدو، فسواء مال البدو إلى الكسر أم الضم فإنه سيعزو ذلك إلى
الشجاعة والخشونة. في حين نحتاج إلى فهم السياق الذي تعمل داخله اللهجة كي نستطيع تفسير
ميلها إلى تفضيل حركة على أخرى كسمة مميزة لها، وهذا يتطلّب منّا توضيح عدّة نقاط:

إنّ
الضمّة والكسرة متشابهتان من الناحية الصوتية، فهما من أصوات اللين الضيقة وكثيرًا
ما تحل إحداهما محل الأخرى في الظواهر اللّغوية (17)، غير أنّ النطق بالضمّة يحتاج
إلى جهد عضلي أكبر من الجهد الذي يحتاجه النّطق بالكسرة؛ “لأنها تتكون بتحرّك
أقصى اللسان، في حين أن الكسرة تتكون بتحرّك أدنى اللسان، وتحرّك أدنى اللسان أيسر
من تحرّك أقصاه”(18).

وإذا
عدنا إلى نظرية اليسر والسهولة، وهي من أبرز نظريات التطوّر الصوتي، وقابلناها بأثر
البيئة الجغرافية في الحفاظ على اللّهجة، كما أوضحنا قبل قليل، فقد نستطيع تفسير هذه
الظاهرة اللهجية. فهذه النظرية تفترض أنّ اللغة تميل “في تطورها، نحو السهولة
والتيسير، فتحاول التخلّص من الأصوات العسيرة، وتستبدل بها أصواتًا أخرى، لا تتطلّب
مجهودًا عضليًا كبيرًا، كما أنها تحاول أن تتفادى تلك التفريعات المعقدة، والأنظمة
المختلفة للظاهرة الواحدة”(19). ورغم أنّ النظرية لا تنطبق على كل الحالات فإنّ
كثيرًا من التطوّرات الصوتية في اللّغة تسير وفقًا لها(20)، فالإنسان في أثناء ممارسته
للّغة يميل إلى تحقيق الهدف (إيصال المعنى) في أقل مجهود عضلي وبأسهل السبل، الأمر
الذي يدفعه إلى استبدال الصوت السهل بالصوت الصعب الشاق(21).

ويؤكد
أنصار هذه النظرية على الخاصية التي تطرقنا إليها قبل قليل، وهي أنّ التطوّر الصوتي
غير إرادي “فهو يحدث دون أن يشعر به المتكلم، ودون أن يعمد إليه قصدًا. فالمرء
في الحقيقة حين ينطق بالصوت السهل بدل الصعب يخيل إليه دائمًا أنه ينطق بالصوت الأصلي
دون تغيير فيه، فالعملية إذن لا شعورية، وهي لهذا بعد تكررها تترك أثرًا في تطوّر كثير
من أصوات اللغات”(22).

وكي
نحاول تفسير ميل البدو إلى الكسر، في مقابل ميل الفلّاحين إلى الضم، يجب أن نوضّح الفرق
بين بيئة كل منهما. فالبدو يعيشون في بيئة صحراوية -أو شبه صحراوية – قاسية وحياتهم
قائمة على الترحال بحثًا عن الماء والكلأ وعلى رعي الماشية من ناحية، بينما من ناحية
أخرى يمارس البدو الغزو دفاعا أو اعتداءً في سبيل السيطرة على منابع الماء والمراعي
والماشية. فالبدوي يعيش في البادية وسط صراع دائم وقد يتعرّض للاعتداء في أي لحظة،
الأمر الذي يفرض عليه أن يبقى متيقظًا وسريع البديهة، ولا وقت لديه للتريّث وتنميق
الألفاظ، بل يقول ما لديه دون مجاملة وبسرعة وبأقل عدد كلمات ممكن. لذلك “مالت
القبائل البدوية إلى الأصوات الشديدة في نطقها، وهو أمر طبيعي يلتئم مع ما عرف عن البدو
من غلظة وجفاء في الطبع. لأن هذه الأصوات سريعة النطق بها، حاسمة، ثم إن ما فيها من
عنصر انفجاري ينسجم وسرعة الأداء عند الأعراب”(23).

والكسرة
ينطق بها بتحريك أدنى اللسان، في مقابل الضّمة التي تتكوّن بتحريك أقصى اللسان، ولأن
حركة أدنى اللسان أيسر من حركة أقصاه فقد مال البدو في لفظهم لكثير من الكلمات إلى
الكسرة واستبدلوها بالضمّة في المواضع التي تسمح بذلك. وذلك على الرغم من أنّ الضمّة
غالبًا هي الأصل في العربية الفصيحة وقد سبق لنا أن ضربنا عدة أمثلة على ذلك.

أمّا
بيئة الفلّاحين، فعلى الرغم من كونها بيئة شاقة وقاسية وقائمة على النشاط فإنها بيئة
أساسها الانتظار؛ فالفلّاح يزرع أرضه وينتظر المطر، ثم ينتظر نمو الزرع ونضج الثمار،
وينتظر موسم القطف. لذلك فهو غير مضطر إلى السرعة في الأداء، بل لديه الوقت الكافي
ليلفظ الحروف بوضوح وللإبقاء على أوائل الكلمات مضمومة كما هي في العربية الفصيحة.
ومالوا إلى المبالغة في تغليب الضم على الحركات الأخرى مثل ياء المضارعة في (يُكتبْ)
و(يُعبد).

الهوامش:

1-العزيزي،
روكس بن زائد (2012)، معلمة للتراث الأردني، (ط2)، ج5، عمان: وزارة الثقافة الأردنية
-سلسلة كتاب الشهر، العدد 158، ص10-13.
2- المرجع
نفسه، ص15.
3- المرجع
نفسه، ص15.
4- انظر
الهامش: المرجع نفسه، ص13.
5- انظر
الهامش: المرجع نفسه، ص13.
6- عبد
التوّاب، رمضان (1997م)، التطوّر اللغوي: مظاهره وعلله وقوانينه، ص9.
7- العزيزي،
روكس بن زائد (2012)، معلمة للتراث الأردني، ج5، ص15.
8- المرجع
نفسه، ص13.
9- المرجع
نفسه، ص13.
10-
انظر حول نظرة البدوي للآخر في: ربيع، ربيع محمود (2019)، القبيلة والنّص: تحوّلات
البداوة في الرواية العربية، ص34-37.
11-
عبد التوّاب، رمضان (1997م)، التطوّر اللغوي: مظاهره وعلله وقوانينه، ص20.
12-
المرجع نفسه، ص201-202.
13-
انظر: عبد التوّاب، رمضان (1997م)، التطوّر اللغوي: مظاهره وعلله وقوانينه، ص20-23.
14-
المرجع نفسه، ص22.
15-
الروابدة، عبد الرؤوف (2008)، معجم العشائر الأردنية، عمّان: مطابع الرأي، ص255.
16-
مقابلة مع الشّاعر أمين الربيع من قرية “سحم الكفارات” بتاريخ
25/12/2019م.
17-
أنيس، إبراهيم (2010)، في اللهجات العربية، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، ص81.
18-
المرجع نفسه، ص85.
19-
عبد التوّاب، رمضان (1997م)، التطوّر اللغوي: مظاهره وعلله وقوانينه، ص 75.
20-
أنيس، إبراهيم (1992)، الأصوات اللغوية، القاهرة: المكتبة الأنجلو المصرية، ص235.
21-
أنيس، إبراهيم (1992)، الأصوات اللغوية، ص234.
22-
المرجع نفسه، ص235.
23-
أنيس، إبراهيم (2010)، في اللهجات العربية، ص88.



المصدر

التعليقات مغلقة.