موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

مقاهي وسط البلد بمصر.. موت السياسة وزحام المخبرين …- وكالة ذي قار



اشتهرت المقاهي الثقافية في مصر المحيطة بميدان التحرير بأنها ملتقى شعراء وكتاب ونقاد سياسيين، واحتضنت الحوارات الأدبية والفنية والإبداعات والأفكار، حيث كانت تجمع نخبة من المفكرين والفنانين الذين يصنعون فضاءات نقاشاتهم السياسية والفكرية على المقاهي التي تضج بها المدينة، فمقاه مثل “علي بابا” و”وادي النيل” و”زهرة البستان” و”أم كلثوم” و”زيزو” كان من روادها العديد من الشخصيات الأدبية الهامة في مصر، مثل نجيب محفوظ وأمل دنقل ونجيب سرور وخيري شلبي وسيد حجاب.. كما أنها على الدوام كانت ملتقى لشباب اليسار. ومن تلك المقاهي في عهد مبارك وُلدت حركات مناهضة للنظام مثل حركة “كفاية” وعقدت جماعة 6 أبريل لقاءاتها الأولى في المقاهي الخلفية في شارع البورصة في وسط البلد، إلا أن تلك المقاهي تعرضت لمداهمة من متغيرات العصر لتتحول إلى فضاءات للنميمة تتجسد فيها الثقافة الاستهلاكية، وعززت تلك التغيرات اتجاه الدولة المصرية لتضييق الخناق على المجال العام. 

تجريف ومداهمات

في عام 2016م ومع صدور دعاوى الاحتجاج يوم 25 أبريل وهو عيد تحرير سيناء ولكن من أجل الاحتجاج على بيع جزيرتي تيران وصنافير، كان ذلك اليوم أحد الاشتباكات المبكرة لشرطة السيسي مع المقاهي، حيث أثبتت تقارير منظمات حقوق الإنسان أن الكثير من النشطاء السياسيين والكتاب وأعضاء الأحزاب قد تم القبض عليهم من المقاهي تزامنًا مع الدعوة للتظاهر.

وفي عام 2019م داهمت قوات الشرطة مقاهي وسط البلد، حيث ظهرت دعوات إلى التظاهر في شهر مارس على مواقع التواصل الاجتماعي للتنديد بحادثة قطار رمسيس والتي راح ضحيتها أكثر من 20 شخصًا، وفي يوم 1 مارس قامت قوات الأمن بالقاء القبض على ما لا يقل عن 126 شخصًا بعضهم من الشوارع ومقاهي وسط البلد في القاهرة للاشتباه في تظاهرهم، واتهموا بتهمة الإشتراك مع جماعة إرهابية في أحدى أنشطة الجماعة.

وعاينت بنفسي، وأنا من سكان منطقة وسط البلد، ظاهرة جديدة من الأحياء المحلية في القاهرة في أعقاب أحداث سبتمبر 2019م المعروفة باسم ثورة محمد علي، حيث خرج العشرات من الناس مستجيبين لدعاوي محمد علي بعد انتهاء مباراة الأهلي والزمالك في كأس السوبر من على المقاهي، والبعض الآخر كان عائدًا إلى منزله، حيث يشهد يوم مباراة الأهلي والزمالك دائمًا زحامًا على المقهى، ولكن ذلك اليوم كان الزحام يشكل خطرًا على الأمن القومي لمصر، حيث تم القبض على العديد من الأشخاص اعتباطيًا والإفراج عنهم فيما بعد. 

ولكن ما رأيته من توابع تلك الحادثة، أن مقاهي وسط البلد التي تحيط بمنزلي على عراقتها وتاريخها المتجذر كنقطة تجمع لمشاهدة المباريات، أصبحت تغلق أبوابها حتى في مباريات منتخب مصر الوطنية مانعة أي فرصة للتجمع والتجمهر الذي تحشده حالة مشاهدة كرة القدم، وحينما كنا نسأل أصحاب المقاهي عن السبب الذي استحدث عليهم هذا الأمر، كانوا يجيبون أنها أوامر المباحث أو قسم الشرطة. 

في العام 2015م أطلقت السلطات حملة لإغلاق أكثر من 40 مقهى بوسط البلد بدعوى عدم حيازتها رخصتها، وفي عام 2017م قال محافظ القاهرة أن المحافظة كانت قد توقفت منذ أكثر من عشر سنوات عن إصدار تراخيص للمقاهي، وإن معظم مقاهي وسط القاهرة مخالفة، وتمارس نشاطها دون ترخيص رسمي،وبتلك التصريحات وضعها في وجه المدفع لتواجه مصيرها مع شرطة البلدية. 

وشهد عهد السيسي خطوة جريئة في تطويق مقاهي وسط البلد، حيث قررت الشرطة أن تغلق مجمع مقاهي البورصة الذي كان متواجدًا في شارع الشريفيين القريب من ميدان التحرير، نظرًا لما كان يحويه ذلك الشارع من عدد كبير من المقاهي التي تختلط كلها في الشارع الممتد ويصعب السيطرة عليها وجمع المعلومات منها، وقررت أن تنقل بعضًا منها إلى شارع عماد الدين الذي يتسم بكونه مكانًا عائليًا لما يحويه من مطاعم ومحلات ملابس تجارية. 

زبائن الإتاوات 

استحدث الرئيس السيسي فئة شرطية جديدة تسمى “معاونو الأمن” لهم صلاحيات قانونية لإلقاء القبض على المواطنين، وهذا القرار قد أثار الكثير من الجدل حوله، ولكن يعبر بشكل جلي عن فكرة دولة المخبرين البوليسية التي تحاول أن تمد أذرعتها في كل مكان. 

دون الحاجة إلى تسميتهم معاوني أمن، كانت فئة المخبرين موجودة دائمًا في كل مكان ومن قبل دولة السيسي، إلا أنها في عصر السيسي قد زادت حتى أصبحت سمة غالبة في المقاهي. ودونًا عن أن يكونوا رجالًا لدى الشرطة، تستطيع الشرطة أن تجند أصحاب المقاهي أنفسهم أو العاملين فيها، بوازع الضبط النفسي لدى الشخصي وخوفه على لقمة عيشه، أو طمعًا في إغراءات الشرطة التي تعده بأمن شخصي، وتتغاضى عن مخالفات قانونية يرتكبها مثلًا إذا كان يتاجر في المواد المخدرة. فيقوم هو بنفسه بإبلاغ الأمن بالمعلومات عن الزبائن التي ترتاد مقاهاه ومن منهم يتحدث في السياسة من وجهة نظر معارضة، ومن منهم يذكر الجيش أو الشرطة. ومن مقاهي وسط البلد التي شهدت عزوفًا عن ارتيادها بعد أن كانت قبلة للناشطين والثوار هو مقهى زيزو في شارع محمود بسيوني والذي استنكر أحد العاملين فيه تلك الظاهرة وعبر بسخط قائلًا إن المخبرين يأتون للمقهى لمراقبة الزبائن الشباب فلا يجدون من يراقبوه سوى أنفسهم، فعدد المخبرين قد فاق عدد الزبائن، كما أنهم لا يدفعون ثمن ما يتناولوه.

جيل “وسط ناو”

في ظل ذلك الخوف المحيق بمقاهي وسط البلد، شكلت السوشيال ميديا منفذًا بديلًا وإن لم يكن آمن بشكل كلي هو أيضًا، ولم تعد لتلك المقاهي فاعلية، بل تحولت من مقهى بالمعنى التاريخي والشعبي للكلمة إلى كافيه بالمعنى العولمي الأجنبي للكلمة، وأصبحت تستقطب فئة من النخب ذوي الخطابات الجديدة ارتبط أكثرهم بفنون لها علاقة بصناعة السينما والإعلانات والإعلام، بالإضافة للجيل الجديد من الشباب الذي يعبر عن حالة الإنمساخ الثقافي التي ضربت المجتمع المصري في أعقاب ثورة 25 يناير، والذي يأتي إلى مقاهي وسط البلد ذات الطبيعة الكوزوموبوليتانية حيث توفر مسحة من الحرية حينما يكون الأمر لا يتعلق بالسياسة. 

فقد ظهرت في السوشيال ميديا المصرية مؤخرًا في السنين الأخيرة، مصطلح “وسط ناو” وهو مصطلح يعبر عن مجموعة من الشباب التي تمتلئى مقاهي منطقة وسط البلد من الجيل الجديد يمكن اعتبارهم نتاج حي لظاهرة العولمة وانعكاساتها على الوطن العربي، فشباب وسط ناو متأمركين يتحدثون العامية المصرية مرصعة بالعديد من المصطلحات الإنجليزية الجديدة، ويتشابه شباب وسط ناو في كونهم يتبنون آراء ليبرالية فيما يتعلق بالحريات، وأيضًا لا يكترثون للسياسة كثيرًا، وقد ورث شباب وسط ناو كون منطقة وسط البلد كانت دومًا ما تشكل مساحة للذين يعيشون بطريقة غير سائدة في المجتمع، ففي مقاهي وسط البلد يمكن للفتاة أن تدخن بشكل طبيعي بل وأن تخالط الرجال على المقاهي مثلًا، فلقد كان مجتمع وسط البلد حرًا. 

لقد ظهر مصطلح “وسط ناو” حين ظهر، ليعبر عن امتلاء مقاهي وسط البلد بمجموعة بديلة من مدعي الفكر والثقافة والباحثين للتحرر ودعاته، تعبر في مفارقة ساخرة عن حنين المصريين لأنه كان هناك يومًا ما في نفس المكان مجموعة حقيقية من المشتبكين والمثقفين الفاعلين.



المصدر

التعليقات مغلقة.