موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

قضيتي الكبرى هي ذاتي …- وكالة ذي قار



كيف لآني إرنو المولودة سنة 1940 في فرنسا أن تخاطبني أنا المولودة في الأردن سنة 1993! 

بينما كنت أتجول في المكتبة لفتتني مجموعة أعمال للكاتبة الفرنسية الحائزة على نوبل 2022، والتي لولا فوزها هذا لما سمعت باسمها أبدًا. أغواني الحجم الصغير للكتب فأخذت أربعة: الحدث، وشغف بسيط، ومذكرات فتاة، والعار. 

تندرج مؤلفات إرنو تحت أدب يسمى “التخييل الذاتي” وبعضهم يطلقون على هذا النوع من الأدب “أدب السرة” ويتميز كتاب هذا النوع بالتركيز على ذواتهم ودواخلهم غير مكترثين بالقضايا الكبرى. وهنا أستحضر إجابة الرسامة المكسيكية “فريدا كوهلو” حين سألوها لماذا ترسمين الكثير من الصور لنفسها self-portraits فكانت إجابتها: “أرسم صورًا لذاتي لأنني غالبًا وحيدة، لأن الشخص الذي أعرف أكثر من أي شخص آخر هو أنا”. 

لطالما تعجبت من مصطلح القضايا الكبرى؛ إذ لا أظن أن هناك قضية أكبر من القضايا التي تدور حولي أنا، قضيتي الكبرى هي ذاتي. من خلال قراءتنا لإرنو ندرك أن الكتابة الحقيقة والصادقة تحول الأحداث العادية وحتى المبتذلة إلى عمل أدبي عظيم.  

في كتبها الأربعة تتحدث إرنو عن فترات مهمة في حياتها، تعود لتقف وجهًا لوجه أمام ذاتها الطفلة والمراهقة والشابة. ليس ما تكتب إرنو سيرة وإنما تستحضر ذاتها القديمة كأنها ذات أخرى، وهي كذلك تحاول فهمها والإحساس بما أحست به وفهم دوافعها ومبررات أفعالها. ليس ما تقوم به إرنو فعل تذكر بل فعل تفكيك لطفلة ومراهقة وشابة كانتها يومًا ما.  

في كتابها “مذكرات فتاة”، وهو أقرب الكتب إلى قلبي، تستحضر إرنو ذاتها المراهقة في خمسينات القرن الماضي، وتصف لنا في بداية الكتاب صعوبة هذا الاستحضار فتقول بأن الجهد الذي تطلبته كتابة هذه الرواية عظيم وقد أجلت كتابتها سنوات وسنوات. لا تبالغ إرنو في وصفها إذ ينطبق ما تقول على كثيرين منا فكم يصعب علي فهم ذاتي القديمة التي كانت تتحرك في محيط يختلف عن الذي أعيش فيه الآن ووفق معطيات زمن آخر. وإذا ما قارننا هذه الحال بإرنو التي عاشت في الخمسينيات حياة فتاة قروية بسيطة سنجد أن الكتابة ستكون مرهقة أكثر، وخاصة بعد مرور أكثر من نصف قرن.  

 تختار إرنو ضمير (هي) للحديث عن المراهقة القروية التي كانتها صيف 1958، والتي استطاعت الالتحاق بمخيم صيفي يضم طلابًا من طبقات مختلفة مما أغواها بأن تنزع جلدها وتتخذ قرارات تؤدي لحدث فارق في حياتها. في ذلك المخيم الصيفي ستخوض تلك المراهقة أول تجربة جنسية لها فقط لتثبت لنفسها أنها تستطيع فعل ما تريد، تتخذ قرارت وتقوم بتصرفات لن تسبب لها لاحقًا سوى الألم والخزي. وعلى الرغم من مرور كل تلك السنوات وتغير العالم ونظرته إلى كل ما يتعلق بالجسد إلا أننا نشعر بخزيها وعارها ونحن نقرأ. 

في روايتها “الحدث” تروي لنا إرنو قصتها كشابة في الستينيات تحاول إجهاض حملها. ربما تبدو في كتابة إرنو باردة قليلًا في البداية إلا أنك ما إن تدخل عالم الشابة تلك فتشعر بنفسك عالقًا في تلك الشوارع معها وهي تحاول الاستعانة بأي أحد بغية التخلص من جنين لم ترده من الأساس. وعلى الرغم من أهمية كتابها “مذكرات فتاة” والذي اعتبرته مفصليا بين أعمالها إلا أن “الحدث” لا تقل أهمية عنها فالعالم الضيق الذي اضطرت فيه لخوض تجربة جنسية لتثبت لذاتها حريتها هو نفسه الذي لم تجد فيه وسيلة قانونية للتخلص من جنينها بعد سنوات قليلة. 

ربما يشعر القارئ بأن الأحداث التي شكلت بناء روايات إرنو عادية وقد يمر بها كثيرون دون أن تعتبر أحداثًا مفصلية تستحق الكتابة

في روايتها “العار” تتناول إرنو فترة أسبق في حياتها حيث كانت تبلغ من العمر 12 عامًا وقد رأت والدها يحاول قتل أمها إثر مشاجرة عنيفة. لم يعرف والداها أنها رأت ما حدث إلا ما حدث كان له تأثير كبير على نظرتها لحياتها كلها. لا تركز الكاتبة كثيرًا على الحادث إذ تكتفي بالحديث عنه في القسم الأول من الكتاب الذي قسمته لأربعة أقسام. في الأقسام الأخرى تركز إرنو على ذكر تفاصيل حياتها مع والديها اللذين يمتلكان دكانًا يشكل جزءًا من البيت، تفاصيل عائلة ريفية تجلب لهذه المراهقة شعورًا بالعار، عار أنها فقيرة، عار أنها ريفية، عار يلازمها ولا تدري لماذا إلا أنها تعرف أن هذا الشعور بدء منذ رؤيتها لوالدها ذلك اليوم وهو على وشك قتل أمها. 

أما في روايتها “شغف بسيط” نجد تحولًا كبيرًا في تعاطي البطلة مع عواطفها واندفاعاتها العاطفية، لم تتغير إرنو المراهقة جذريًا إلا أننا نجدها تتفهم وتتقبل بل وتحب ما تخوض من تجارب عاطفية وجسدية بعد أن كانت تشعر بالخزي والعار. ربما نعزو هذا التغير إلى سببين أولهما تقدم الكاتبة في العمر والسبب الثاني هو تغير طبيعة الحياة في فرنسا بل والعالم وما رافق الحياة الجديدة من انفتاح. 

ربما يشعر القارئ بأن الأحداث التي شكلت بناء روايات إرنو عادية وقد يمر بها كثيرون دون أن تعتبر أحداثًا مفصلية تستحق الكتابة، لكن كما سبق وذكرت فإن كتابة إرنو قادرة على تحويل هذه الأحداث إلى نص إبداعي ينبض بالحياة. كما تنقل لنا الكاتبة من خلال رواياتها الوضع الاجتماعي والسياسي في فرنسا في فترات مختلفة من تاريخ فرنسا، إضافة إلى ذكرها لأهم الأفلام والأغاني التي سادت في فترات معينة مما يجعل القارئ ثريًا. حين تقرأ إرنو فأنت أمام نص خادع يبدو للوهلة الأولى باردًا إلا أنك وباستمرارك في القراءة تجد نفسك أمام نص نابض بالحياة. 

 وجدت نفسي أمام إرنو وسمعتها تخاطبني بلغة أفهمها؛ إذ ما زلت أشعر بنفس رعبها حين استحضر ذكريات من الماضي، وأعرف كيف أن أحداثًا قد تبدو بسيطة لكل من هم حولك تجعلك مكبلًا لسنوات وسنوات وسنوات، وكيف باستحضارها عن طريق الذاكرة فقط تجلب لنفسك الألم فكيف بكتابتها!





المصدرالمنقول منه

التعليقات مغلقة.