( إلى الصديق الشاعر جيكور اهدي هذه القصة ) .
تدور هذه الحكاية , بعد نهاية احدى معارك نظام صدام حسين – وما أكثرها – حين ثار الناس مع الجيش المنسحب بعد احتلال الكويت . ثم استتب الامر بعد ذلك للطاغية بمساعدة امريكا ، ليكيل الطعنات مضاعفة .
هرب أكثر الناس الحدوديين الى احدى الدول المجاورة , تاركين بيوتهم عرضة للسرقة من قبل عصابات كانت تتاسس عقب كل حرب , حين يضعف النظام . وكان افرادها يتكونون من بقايا الهاربين من الخدمة العسكرية او من الذين حالفهم الحظ في الفرار , من السجون المفتوحة , او ممن يصدر النظام العفو بحقهم , من المجرمين , قبيل كل حرب . وكان افرادها يحسون انهم بعيدون عن يد النظام التي كسرتها الحرب , فكانوا يتصرفون بجلافة مفرطة تجاه كل شيء وكأنهم أعوان للسلطة . وراحوا يسرقون كل ماتقع عليه ايديهم , حتى طابوق البناء وبقايا القصب وسيفونات ومقاعد التواليت . وكانت طريقتهم تدريجية من الاغلى الاصغر حجما ووزنا وباتجاه الأكبر فالأكبر , وهكذا . امام ذلك الهدر الهائل للمال المجاني , بطرق مختلفة للفساد يبتكرونها مع حرية لاحد لاتساعها , غير عارفين او متجاهلين الضوابط والاصول التي اعتادها ابناء الحي الواحد والقرى المتجاورة . لعب بالنرد والورق وانواع القمار الاخرى ، إفراط بشرب الخمر ، نساء ، شذوذ متبادل .
كان بيت والدي واخوتي , البيت الكبير , يقع في تلك الجهة من النهر , وقد هربوا تاركين بيتهم , والجمل بما حمل . ولاني سلمت بسبب وقوع بيتي في هذه الجهة , مع وظيفة حكومية لابأس بها ، فقد حُمّلت مسؤولية .
كان علي وبحكم العرف والتقاليد وضغط الاخرين ان اقوم بانقاذ ما يمكن انقاذه , او على الاقل الاوراق الثبوتية الخاصة بهم .
– في الغد , حين سيعودون , فما الذي ستقوله لهم ؟. وما المبررات التي ستسردها , حينما يسالونك عما جرى لبيتهم , واثاثهم ؟ .
كان بعضهم يعتقد ان النظام ايل للسقوط . ويعتقد البعض الاخر ان النظام سوف يصدر عفوا عن الهاربين .
هكذا كان الناس والاقارب منهم على وجه الخصوص يقولون لي .وامام ذلك الالحاح قررت الذهاب .
تركت سيارتي وزوجتي , بصحبة ابنتيها الصغيرتين عند هذه الضفة من النهرلان الحرب اتت على الجسر الوحيد الصالح لعبور السيارات . وعبرت بصحبة ولديّ الصغيرين الذين لايتجاوز عمر اكبرهما العاشرة .
يبدو لي الان وانا اتصفح وريقات ذاكرتي كاني كنت عندها ذاهبا مع عائلتي الى احتفال عيد النوروز في كنف احد الصالحين النائم هناك ، ولم اكن احسب حساب الحرب التي لازالت تلقي باوزارها اثناء عتمة الليل .
رحنا نحث الخطى الى البيت الذي لم نجد فيه سوى اشياء لااهمية لها بعد ان تمت سرقة كل شيء مهم تقريبا , حملنا ما امكننا حمله من اشياء القينا بها بعد قليل على قارعة الطريق بعد ان نقلناها لمسافة بعيدة , حين وجدنا ان قيمتها لاتتناسب مع ماعانيناه من تعب حملها ,خصوصا بعدما سمعنا الناس , وقد اربكهم الوقت , وهم يتصايحون , عن , منع التجوال الذي سيحين بعد قليل ان لم يكن قد حان الان فعلا , ماجعلنا نسرع خطانا حينا ونركض ركضا اخرى , قدر ماتتسع له خطواتي اللاهثة الراعشة في محاولة للفوز بالوقت والوصول قبل فوات الاوان . ولكن الاوان كان , قد فات فعلا , اذ توقفت جميع وسائل العبور بامر السلطة الاّ شاحنة بحرية , كانت قبلا تستخدم لاغراض اخرى غير نقل الناس , كالقطر البحري .
ومثل رحلات السندباد البحرية , نادى المنادي الناس بالاسراع للصعود, لان هذه هي الرحلة الاخيرة . فراحت الاجساد البشرية تتدافع , رجالا ونساءا ، في انانية مفرطة – كما اعتدنا على ذلك في بلادنا في مثل هذه الحالات في اوقات الشدة ، غير النادرة – وبسباق عنيف كان كل واحد منهم يختلق لنفسه فيها اعذارا اضافية لاعذاره الكثيرة في جلب الغفران لنفسه والقاء تبعات مايجري على الاخرين امام انانية مفرطة , فكان جرّاء ذلك مايحدث من صراع يومي والم مرير , بين ابناء شعبنا .
ظننت عندها ان لدى النظام السياسي رحمة بالناس لانه من جهة وفر لهم اكثر من وسيلة عبور مجانية . ومن الجهة الاخرى امد في وقت الطواريء .
بعد جهد جهيد استطعت الصعود – مستثمرا لهذا الغرض بنيتي القوية – مع الولدين الى ظهر الشاحنة بين كتل الركاب المتزاحمة . ولكن قبل ان اتنفس الصعداء ,صيح بالجميع الاسراع بالنزول من العبّارة لفوات الوقت,المسموح به , حين نزلت انا مع الطفلين , اجر اذيال هزيمة ميتافيزيقية قاتلة .
ومن هنا تبداْ المأساة ففي الضفة الاخرى , مؤكّــدٌ تماما , ان تقف المرأة حائرة مع طفلتيها بجوار السيارة امام رجال الامن المتهدد المتوعد متوسلة حينا وضارعة احيانا اخرى , وانا هنا مع هذين الطفلين تفصل بيننا مئات الامتار من المياه العميقة , وقانون طوارىْ ليس فيه ايّــة نسبة من التسامح وغير قابل للنقض تحت ايّــة ذريعة من الذرائع .
ان هذا الليل , مثل اي وقت اخر , كما هو حال كل ازمان الكرة الارضية , سوف ينقضي حتما , محكوما بقوانين الفلك الصارمة , فالوف الايام تمر دون ان يهتم بها احد . ولكن الثواني ستطول , هذه الليلة , التي لاتشبهها ليلة اخرى , لتتحول احتافا وسوف يمر قرن كامل قبل ان ياتي الفجر . ولو جاء , سنتحدث طويلا عما جرى اثناء هذه الليلة .
يا لهذه المراة العنيده كم حاولت اقناعها بجدوى ان تتعلم سياقة السيارة ولكنها كانت تقابلني بالرفض دون طائل , بذريعة انها تخاف . ترى كيف ستقضي الليل هناك في الشارع , مع اوضاع أمنية ساخنة وحراس تقال عنهم الاقاويل من عدم احترام النساء ؟ . اجل , سوف يصادرون السيارة تحت ذرائع وقوانين شتى ,وسوف يذهبون بالمرأة الى كواليس خفيّة ، الله وحده يعرف اسرار ماتنطوي عليه . يالهذا الليل , ويا لهذا المصير الذي ساقني اليه .
امام هذا النعي الوجودي لقدر عنيف حط بي فجأة هنا , رحت حائرا ، انطلق بعينيّ نحو النهر الهائج , حين شاهدت طفلا يقود زورقا صغيرا , قفزت فيه قبل ان اترك للطفل حرية الاختيار امام هذا النزيف القاتل من الناس المتجمهرين خلفي .
أمام سحر المال ذلك الإغراء ، الأزلي , جعل الطفل لايرفض العبور للضفة الاخرى .
كان زورق الطفل صغيرا تماما . تبينت فيما بعد انه من النوع المستخدم في سباقات الماء , يركب به شخص واحد , وهو على كل حال سباح ماهر , بطل سباحة , وليس اربعة احسنهم كبيرهم الذي غادر النهر منذ زمن بعيد . ولقد تساوت حافة الزورق العليا مع حافة الماء ما جعلني افكر طيلة الوقت بذلك الخيار , بين الموت غرقا او الموت رميا برشاشات يحملها الامنيون الواقفون مباشرة فوق فم النهر المؤدي الى اليابسة . خياران كلاهما تافه وسخيف ، بين رجال الأمن الذي يحملون تخويلات مشددة وتصريحات بالقتل ، ونهر متأهب للانقضاض في أية ثانية . لقد كنت في تلك اللحظات مأخوذا بافكار سوداوية ارحم مافيها , ذلك اللوم العنيف والتقريع اللذين ساجنيهما من الآخرين , حين يموت الطفلان غرقا من اجل لاشيء ، وسأصير شبيها بطحان لافونتين المثير للشفقة .
وكانت غربتي تزداد ظلاما ، كلما نظرت الى فكي النهر الفاغرين, المتهيئين ، ولعينيه الغامزتين , فرحا بغذاء طازج شهي لكائناته النهمة التي عودتها الحرب الالتهام , وكان الزورق الغاطس في الماء لايرى منه شيئا وكان يمر بالأشياء , الغارقة امام مراى اطفال ، اثنان منهم على الاقل لايعرفان السباحة, وسيكونان بعد قليل غرقى ونسيت ان اسال الطفل ان كان يعرف السباحة , تحت طائلة الخراب الذي طال ذاكرتي .
في تلك اللحظات المهزومة من عمر زمني , ندمت كثيرا , على اشياء كثيرة منها ذلك التصرف اللامسؤول الذي جرني لهذا الموقف , واصطحاب الاطفال , معي , وندمي على اني لم اعلمهما السباحة لصغر سنهما . وما الذي ستعنيه هذه الكلمة الساذجة , الندم, امام هذا المطلق الذي لامعنى لشيء سواه , امام تلك الوحوش الشرهة , التي يوجهها الماء العاصف العميق الذي يابى ان يهدا . وفكرت ترى لو غرق الزورق الان فمن سيدري بنا ؟ ولو دري بنا فمن سيهمه امرنا والوف الكائنات التي خلفتها الحرب الاخيرة مازالت في الماء لم تتفسخ بعد بسبب برودة الماء ؟ هكذا كنت افكر .
وهنا اتوقف . ففجاة انقلب الزورق, ولكنه حسن الحظ ,ذاك الذي كنت انعاه منذ قليل لان ذلك كان , في مكان قريب من الجرف , الذي كان سببه قوة اندفاع التيار الراجع من اصطدام الماء بالشاطىء , واستطعنا انقاذ , انفسنا بانفسنا , وامام اللوم والتعنيف والتوبيخ , والسب , الذي كاله الامنيون لي ,والذين بدوا عاطفيين امام منظر الطفلين الغاطين بالماء والوحل في ليلة آذارية باردة , وكانوا على حق, وقد تم القاء القبض علينا لفترة قصيرة اطلق سراحنا بعد جدال وتوسل طويلين لاجد ان زوجتي في حالة من الذهول لم تتشاف منه لحد الان , حين كنا نفعل فعلتنا الصاخبة ونحن نتكيء على قدرنا الذي شبع الما من مسارنا في تلك الليلة التي لاتشبهها ليلة , ولقد كانت محنة , خصوصا ما عانيناه من الشرطة وامن النظام ونحن نمر بهم , من التفتيش الصارم والتقريع العنيف والاهانات المتواصلة , وتفسيرات لا احد يسمعها منا .
لقد كنا بنظرهم مذنبين بغض النظر عن طبيعة الاعذار, التي لاينصتون لها بناء على المهمة التي وضعوا , من اجل تنفيذها .
اما الآن فلا زلت اكره أن أقوم بمهمة اتراصف فيها مع الليل .
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.