موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

قصة / بائع الشاي

منى عبد الغني البدري  ///

ضجيج أصوات السيارات يقتحم أذنيه ونغمة عربة الغاز الخشبية تعلن عن دخول حياة جديدة في صباح جديد , لاوجود لصمت الصباح في هذا الزقاق القديم بكل شيء بتأريخه ومنازله وساكنيه , كل شيء هنا يصارع من أجل الحياة حتى العصافير لم تعد تغاريدها تستمتع بها المسامع , فالمزاجات قد أرهقت تماما حتى نسيت كل شيء جميل , صوت الطفلة فاطمة يعلو فوق كل شيء ألماً من الطفح الجلدي الذي أصاب جلدها الرقيق النحيف من سعات البعوض فوق سطح المنزل وشدة الحر اللاهب …من بين كل هذا لم يسمع رضا أجمل من صوت دعاء الصباح الذي تعود من زوجته أن تملأ به أرجاء المكان عندما تشغل المذياع , لكن صوت ابنته الصغيرة ذات العامين ضايقه كثيرا ,اقترب منها وأخذها بين أحضانه المبتلة من شدة العرق ليحاول اسكاتها فتذهب زوجته لتعد طعام الإفطار لكنه يقول لها ليس لديه وقت فيجب الذهاب للعمل الآن , ( كل يوم تقول هذا منذ أن بدأ الصيف وتذهب دون طعام) هذا ما قالته زوجته , لم يرد على حديث زوجته غير أنه نظر إلى الجدار الذي زينته صورة السيد محمد الصدر (قدس سره الشريف ) هذا الرجل العظيم الذي دونما شك حين ننظر إليه فإننا سنقرأ ملامح الإيمان والسماحة والبطولة على ملامحه أما الصبر فهذه الصفة التي تميز بها صاحب هذه الصورة … حسرة واضحة غصت بها أضلاع صدر رضا وهو يقول:
( الصبر ..الصبر..اللهم ألهمنا الصبر كما ألهمته لهذا الرجل ) ما زالت الصغيرة فاطمة تبكي وضجيج السيارات يعلو ودعاء الصباح انتهى ..(خذي ابنتك وحاولي أن تغسلي جسدها بماء بارد وأن تمنعيها من التعرق سأذهب لعملي) نهض رضا وهو منهك القوى وألم الصداع يجعله لا يركز الرؤيا من قلة النوم فهو لم ينم إلا بعد صلاة الفجر مباشرة حينما جاء التيار الكهربائي لمدة ساعة وانقطع فطوال ليلته الماضية قضاها متنقلا بين غرفة نومه وبين سطح المنزل المليء بالبعوض والذي توقف به الهواء تماما فدرجة الحرارة وصلت إلى أحدى وخمسين درجة مئوية …بعد دقائق من الاستحمام السريع ليسابق الزمن المتبقي ارتدى رضا ملابسه التي تعود أن يرتديها كل يوم في العمل و تأبط كيسه الأبيض البلاستيكي الذي وضع به بعض حاجياته التي يحتاجها في مقهاه الصغير المتواضع في سوق هرج في باب المنزل وقف برهة من الزمن ليتمتم بينه وبين نفسه الآيات القرآنية المعتاد على قرائتها كل يوم..ليتجه نحو نهاية الشارع …كانت المركبة التي تحتضنه هو وركاب أخرين بمثابة برلمان سياسي صغير كما يسميها رضا فأغلب الأحاديث التي تدور بين الركاب هنا هي أحاديث سياسية وخاصة ما يخص نقص الخدمات في البلد وانقطاع الكهرباء والمشاكل المتفاقمة التي تمس حياتهم ….دخان السكائر المنبعث من أفواههم تجبره أن يفتح نافذة المركبة بالرغم من أن الهواء ساخن جدا وذرات الأتربة الكثيفة بدأت تتطاير بالجو …الابتسامة المصطنعة هي الشيء الوحيد الذي كان يتحدث به …ليس لان أحاديثهم لا تروق له بل لأنها بالنسبة إليه أحاديث متكررة ومملة ولا فائدة منها…سيمفونية كل يوم وحديث الأمس هو حديث اليوم حديث الغد…( لا ننام بسبب الكهرباء , أرزاقنا تعطلت بسبب الكهرباء , المولد لا يعمل , مولد الشارع به عطل ,وآخر يقول الشرطة تلاحق صاحب مولدة شارعنا لانه لا يلتزم بقانون التشغيل , الوجبة الغذائية ما زالت متقطعة ورمضان على الأبواب , الجو حار ولاهب جدا هل سنتحمل الصوم؟؟أم سيصوم فقط من يعيشوا بالخضراء؟؟أسعار المواد الغذائية والسوق بشكل عام أسعاره خيالية ..كيف للفقير أن يعيش؟؟
معدلات الرسوب بين الطلبة كبيرة جدا بسبب الكهرباء , آخر يقول لا غيروا المناهج والمدرس غير متمرس على المناهج الجديدة والكتب يستلمها الطالب مؤخرا) كثيرة مثل هذه الأحاديث كانوا يتحدثون بها مواضيع شتى وغير مترابطة ببعضها البعض ورضا ما زال يحترف الصمت… فقط امتدت أنامل يده اليمنى إلى جيب بنطاله الخلفي ليظهر الأجرة فيكتشف أن النقود ممزقة ورثة لن ترضي السائق سمع همسا من أحدهم يقول ( هذه نقود الحكومة ) ابتسم رضا واكتفى باستبدال هذه النقود بأخرى أحسن حالا من جيبه ليعطيها للسائق وينزل من المركبة إلى سوق هرج مكان عمله وكشكه الصغير المتواضع الذي صنع منه مقهاً صغيرا يقدم من خلاله الشاي للزبائن الفقراء الذين يرتادون هذا السوق القديم سواء للبيع أو للشراء.
بالرغم من أن رضا منهك القوى لكنه كان يتقدم بخطواته الثقيلة بكل تحدي , وبقوة يستمدها من إيمانه بالله عز وجل وسط هذا الزخم العشوائي من البشر والهتافات العالية في هذا السوق الشعبي القديم ..غرف صغيره دون جدران بعضها مسقوف بقطع من القماش الثقيل والبعض منها سقف بصفائح حديدية تعكس حرارة الشمس اللاهبة أكثر من الخارج , وضع كيسه الصغير بباب مقهاه الصغير فقط وجد أنه قد رش برذاذ من الماء التي اختلطت بذرات التراب فأنعشت هذا المكان المتواضع برائحة التراب التي يعشقها رضا , كما عشق رؤية وجه (قاسم ) هذا الرجل السبعيني الذي يرافق رضا دائما أثناء مكوثه في محله الصغير هذا , ( اليوم تأخرت يا ولدي فقلت أفتح المحل حتى تأتي , وقرأت دعاء الرزق من أجلك ) هذا ماقاله قاسم ( نعم يا عمي الكهرباء وابنتي المريضة أرهقا أجفاني ومنعاني من النوم ) نظر رضا إلى قاسم ليقرأ ملامح الأب الحنون في وجهه المجعد والذي يحمل بين زوايا تقاسيم وجهه عدد أيام السبعين سنة الماضية بكل تفاصيلها تفاصيل ملأها الحزن والألم والأنين لفراق ثلاثة أبناء شهداء فقدهم بين حماقات حروب صدام اللعين , حتى انكسف قلبه من وجع فراق أبنائه وزوجته التي لا قت ربها بعدما أنهكتها صدمات الموت اللاحقة لفلذات أكبادها , الحياة جرفته ليلتقي برضا الذي يشعر بالراحة النفسية معه والمشاعر الأبوية التي حرم منها وهو صغير , كم هي عجيبة هذه الدنيا وكم هي رائعة الحكمة الالهية التي تجمع قلوب منكسرة شتتها الفراق لتكمل بعضها البعض .
صوت يأتي يقطع هذه الأفكار ليطلب كوباً من الشاي المهيل الذي عرف به رضا وباتقان إعداده, كثيرون هم في هذا المكان يمتهنون مهنة بيع الشاي لكن لرضا كان له نفس خاص في اعداد هذا الشراب وله جمهوره الذي يرتاده باستمرار,( مكانك منزو كثيرا لكن الشاي الذي تعده له مذاق خاص ونكهة طيبة جدا ) هذا ما قاله الرجل الذي طلب كوب الشاي فرد عليه قاسم على أرضية مبتسمة اكتفى باطلاقها رضا ( ليس المكان من يقيم الرجال بل الرجال من يقيموا المكان ) فقال الرجل : ( هل أنت والده؟ ) صوت رضا سبق نظرات قاسم الصامتة فقال : ( هو أكثر من والدي , إنه بركة هذا المكان ) منذ وقت طويل لم يتردد على رضا مثل هيئة هذا الزبون فهو ذو هيئة نظيفة ومرتبة جدا ويرتدي بدلة راقية جدا تبدو غالية الثمن سوداء اللون وحذاؤه يبدو قبل أن تمتطيه ذرات الغبار جديدا ولامعا وقد وضع عطرا نفاذا وذو رائحة طيبة لا يضعها إلا الأثرياء , الرجل طويل القامة عريض الصدر بالأربعين أو قريب الخمسين من العمر , ذو كرش بارز, بدا مبتسما خفيف الطلعة يتحدث كثيرا دون انقطاع , أخذ يسأل أسئلة كثيرة حول هذا السوق وما مدى صلاحية البضائع المستعملة هنا وخاصة مواد البناء والمواد الانشائية القديمة على مختلف أنواعها قال رضا : ( يبدو أنك لاول مرة ترتاد هذا السوق ؟ ) ابتسم الرجل وقال : ( أنا مقاول لدي مشاريع بناء وأريد أن أجد مواد رخيصة الثمن فالفرق يجعلني أتوسع بمشاريعي !!!!) ضحك رضا صادرا قهقهة محتشمة أطفأها بإنحنائة خفيفة لرأسه نحو الأرض رفع رأسه مرة أخرى أراد أن يقول شيئا لكن قاسم وقف ليستقبل زبونا جديدا بعمر العشرين بيده نقود ورقية فئة خمسة وعشرين ألف دينار يرتدي سروالا طويل عريض أسود اللون مليء بالبقع البيضاء الكثيرة وقميصا أصفر مخططا بخطوط سوداء مرفوع الأكمام وقد اف على رأسه قطعة من القماش الأبيض القطني لتقيه حرارة الشمس الملتهبة . بعد أن ألقى الشاب التحية حياه قاسم بحرارة ثم تلاه رضا بالتحية مادا يده بكوب شاي طيب الرائحة لكن الشاب قال بأنه على عجالة ويريد أن يصرف هذه النقود لان زبائنا اشتروا سمكا منه وهم ينتظروه شعر رضا بالاحراج لانه لا يملك هذا المبلغ فهم في أول الصباح , نظر قاسم إلى الرجل المقاول دون أن يحدثه وهو يؤشر له بالنقود . لكن الرجل تحدث بحديث أغضب من معه في هذا المقهى الصغير حين قال : ( لا يمكن أن أضع في جيبي نقود رائحتها زفرة ) أطبق قاسم حاجبيه من شدة الغضب وبصوت أجش رد على المقاول قائلا : ( هذه النقود حلال ولايمكن أن تكون زفرة كما وصفتها الزفر لا يأتي من الرزق الحلال حتى لو كان بيع السمك لكن تأتي من مال السحت ) غاص المقاول ناظرا بدهشة في ملامح قاسم الغاضبة واندهش أكثر حين رأى الشاب يقبل رأس قاسم ويأخذ النقود ويخرج من المكان كله ليبحث في مكان آخر .
هدأ رضا من روع قاسم وأجلسه على كرسيه أما المقاول فنهض هو الآخر ليضع نقودا بجانب كوب الشاي الذي تناوله ثم قال : ( لا أعرف ما هو الداعي للعصبية هذه كلها أنا قلت رأيي بصراحة أساسا أنا غير معتاد على هذه الأماكن ودائما أتجنب الاختلاط بأمثالكم , في هذه الأثناء انتزع قاسم عينيه من انحناءة غاضبة من الأرض ليصوبهما نحو الرجل لكنه في نفس اللحظة انتقلت نظراته إلى رضا وهو يقول للرجل : ( إنك تذكرني بحوت يعوم في البحر ليتغذى على قوت الأسماك الصغيرة ثم يبتلعها هي نفسها ) رد عليه الرجل : ( أنتم هكذا أيها الفقراء تحسدونا وتتهموننا أننا سارقون قوتكم وأننا سبب معاناتكم , أخي إذهب أنت وأصدقاءك أمثالك لتصنعوا ساحة تحرير وتطالبوا بحقوقكم من الدولة ولا تحاولوا أن تتهموننا نحن من اجتهدنا بالباطل ) اندهش رضا من حال قاسم حين رأى كيف أن سحابة الغضب قد انقشعت فجأة من ملامحه وأنه طلب من الرجل المقاول أن يجلس في مكانه بكل هدوء بعيدا عن موجة الغضب التي التحف بها قاسم قبيل هذه اللحظة ليطلب التحدث معه في موضوع هام , جلس الرجل في مكانه وهو يفهم قاسم أنه مستعجل لأن هناك عمل ينتظره فقال له قاسم : ( العمل ستلحق به لكن ما سأقوله لك ربما لن ستسمعه مرة أخرى !!) بدأت علامات التعجب والاستغراب تنثر سحابتها على وجه الرجل المقاول فقال له قاسم : ( ابني هل قرأت شيئا للسيد محمد صادق الصدر ؟؟) قال الرجل: ( رغم أني أكن كل الحب والاحترام لهذا المرجع الديني الفخر لكن ما دخل قراءتي للسيد بموضوعنا ؟) رد قاسم قائلا : ( ابني أرجو ألا تقاطعني فأنا سأحكي لك قصة ستعرف من خلالها علاقة سؤالي بالموضوع ..) قال الرجل : ( تفضل ) أظهر قاسم سبحته الصفراء من جيب دشداشته البيضاء وهو يجلس ليسرد للرجل القصة بينما رضا ينشغل باعداد الشاي للزبائن وأذناه تعوم بين أعماق حديث قاسم الذي قال : ( إن السيد الشهيد محمد الصدر (قدس سره الشريف) عرف بغزارة الأخلاق التي تجعل من المرء يخجل من نفسه حين يقرأ ولو جزء منها والتواضع صفة لازمت هذا الشخص العريق والشريف النسب في إحدى القصص التي قرأتها بأن الشيخ الزهيري أحد تلامذة السيد الصدر يقول فيها ” أنني كنت أناقشه بموضوع في مجلس الشهيد الصدر الأول الذي كان يعقد كل ليلة خميس بهذه الجلسات كانوا يلتقون بالسيد محمد الصدر يقول أنه تضايق من انقطاع الحديث بسبب أن السيد محمد الصدر كان يقوم ترحيباَ لكل قادم إلى المجلس حتى الذي لا يراه ويدخل من باب غرفة أخرى فسأله تلميذه قال له سيدنا أن بعض الذين تقف لهم لا يرونك فلاداعي لذلك لا سميا وانه كان يعاني من مرض في قدميه . يقول فقال لي السيد محمد الصدر أنا أقوم إقداما له لكي لا يراني احد فيقول إنه لم ينهض لانه لا يحترمه أي القادم وعندئذ أكون قد ساهمت في إهانة مؤمن” هذه القصة ياولدي قرأتها في كتاب محمد صادق الصدر مرجعية الميدان لكاتب اسمه عادل رؤوف إذا تحب تقراه ابني المرجعية التي نؤمن بها ليس مجرد شخصية نعجب بها ونفخر بعملها وننسب أنفسنا لها باسم الدين لا يجب أن نقتدي بما فعلوا يجب ان نضع رسالاتهم بعين الاعتبار وحتى سيرتهم الذاتية علينا أن نغرف منها ما شئنا لحياتنا اليومية ابني قبل قليل الشاب بائع السمك ألقى السلام علينا فلم ترد ووصفت نقوده بالزفر دون أن تراعي مشاعره وتقول أنك لا تخالط أمثالنا وكأننا مخلوقات غريبة عنكم من غير كوكب , ابني اذهب ومارس حياتك بالتوفيق لكن اترك التكبر والتعالي جانبا ) هل عملت معلم في السابق ؟ قال قاسم ( ابني أنا لست معلما لكني رجل وجدت أن واجبي أن أتعلم من مدرسة الحياة بما يفيدني ) ابتسم الرجل المقاول ابتسامة مصطنعة وخرج من المقهى .قال رضا : ( كان من المفترض لو تركته يا عمي ) قال قاسم : ( لا يا ولدي واجبي أن اترك الغضب جانبا في تلك اللحظة لأرشده لعله يعرف خطأه )
حركة العمل والحرارة اللاهبة في هذا المقهى الصغير لا يشعر بها رضا مع قاسم فهو يشعر أنه يجلس مع مدرسة متنقلة خاصة له وبه ينهل منها كل يوم الحكايات والقصص والعبر وكل ما يجعل المرء في الحياة تقيا متزنا خاصة أنه يحفظ القرآن والأحاديث النبوية وأقوال آل البيت وقصصهم وإيمانه بمدرسة السيد الصدر جعلته حكيما في قوله وعمله ,وأيضا لا تخلو أحاديث قاسم من الطرفة المتزنة والأشعار الشعبية الجميلة التي يسخر بها من الاحتلال والواقع الخدمي السيء للبلد ومآسي الناس بسبب الحكومات السيئة والاحتلال الأمريكي اللعين كل يوم ينسى رضا كل ما يعكر صفو حياته بسبب هذا الكنز البشري كما يطلق عليه … حين يسمع قاسم آذان الظهر لا يمكن لأي شخص أن يحدثه بعد هذا الوقت لان سماع الآذان والذهاب للمسجد من الأمور التي لا يمكن أن يعطله عنهما أي حديث مهما كان… فيترك المقهى بصمت ويترك رضا ليصلي في قلب المقهى هكذا كانت الأيام الماضية كلها مثل هذا اليوم ورضا يرجع لبيته في تمام الواحدة والنصف ظهرا بعد أن يأخذ شيئا من الطعام لعائلته … الأيام هكذا تمضي كل يوم …حسرات تغص بها قلوب البشر ممزوجة بآلام متحصفة لأجساد الفقراء وأنفاس لوثها دخان المولدات الكهربائية وضجيجها …صيف ينثر لهيبه دون رحمة على هذه الأرض السمراء …ورضا يصنع كمادات من قشور البطيخ لجسد ابنته الرقيق… الذي حرقته أنامل الصيف وغفوة الحكام عن معاناة شعب لا يريد غير أبسط حقوق الأحياء في هذا الكون… يوم كئيب أبى به نسيم الهواء أن يعانق عرق الأجساد المنهكة …وتمرد الصيف امتد يعصر الأرواح دون رحمة…من الصباح الباكر وفي دابر ليلة صارع الأرق بها جفون رضا…فضل أن يسعى لرزقه والذهاب حيث ذلك المقهى الصغير … الإقبال اليوم على أكواب الشاي تضاءل والمارة تقلصت أعدادهم … بضائع رمضان فقط هي التي تجذب المتبضعين فغداً أول يوم في الشهر الفضيل … الأسعار بدات تشتعل لتشعل القلوب معها قبل الجيوب وسط أجواء أرضها كالجمر وسقفها كاللهيب …اليوم اختنق المكان من صمت لم يألفه رضا من قبل … لا بد ان هناك طاريء جعل قاسم لا يأتي حتى الآن … تمتم رضا قائلا وهو يغسل أكواب الشاي ليحضرها لعل قاسم في الطريق إليه ليتناولا الشاي سوية : ( هذا الرجل عيبه الوحيد أنه لا يريد حمل الهاتف النقال ) كيف اتصل به الآن لأطمئن عليه ؟؟)

تمغط رضا من شدة التعب والنعاس قد أرهق عينيه…فكر أن يستلقي على أرض المقهى قليلا فلا يمكن له أن يقاوم الإجهاد والوسن أكثر من هذا ؟ وضع رأسه على وسادة كانت موضوعة على كرسي صغير بباب المقهى وامتدت قدماه بشكل ملتو لان المقهى حجمه صغير…وإذ بقدميه تصطدم بصندوق خشبي صغير … لونه بني به قفل صغير ووضعت ورقة عليه مكتوب عليه … إلى بائع الشاي هذا الصندوق أمانة… أرسله إليك قاسم مساء أمس … قبل دخوله للمستشفى …..الورقة كانت دون توقيع الكلمات كتبت غير مرتبة وبخط ركيك على جذاذة من الورق صغيرة…تجهم وجه رضا …فثمة سوء أصاب صديقه العزيز…غادر المقهى الصغير ورائحة الشاي المهيل …والأكشاك القماشية المسقوفة بسقوف عشوائية …غادر إبريق الشاي والأكواب دون أن يرتبها في مكانها الخاص ودون أن يتأبط كيسه الذي يحمله معه باستمرار … فقط حمل الصندوق الخشبي الصغير الذي كان ثقيلا بعض الشيء….قادته قدماه نحو سيارة أجرة ( تاكسي) بالقرب من سوق هرج الشعبي الذي يتمركز به مقهاه الصغير…وطلب من السائق التوجه للمستشفى ….مستشفى الحسين التعليمي …الساعة الآن الحادية عشر والنصف صباحا والشمس في أشد حرارتها …كان رضا يسرح في عالم من الأفكار المتضاربة ودقات قلبه تختبيء خلف الصندوق الخشبي الصغير…والسائق يتحدث عن حرارة الجو اللاهبة وهروبه من المنزل بسبب الكهرباء والزخم المروري الكبير في مدينة الناصرية ….كانت عينا رضا تسبق الزمن نحو نهاية الطريق وشوقه للوصول إلى المستشفى ليعرف ماذا حل بقاسم … ؟

بين أروقة المشفى يسير رضا لوحده لان الصندوق الخشبي أخذه منه موظف الاستعلامات فلا يجوز الدخول به هنا …وبعد معاناة من السؤال والجواب وحمى الروتين الذي تعاني منه كل الدوائر الحكومية في هذا البلد حتى لو كان مكان على مساس بحياة الناس … توصل إلى حقيقة لم يكن يتوقعها الآن ولم يستعد إليها بتاتا …وهي أن صديقه العزيز … الأب الحنون …. الكنز البشري والمدرسة المتنقلة بالنسبة إليه قد (مات) …. منذ فجر اليوم وقد قام بعض الشباب الذين يسكنون بالقرب من البيت الصغير الذي يعيش به لوحده بأخذه إلى مقبرة النجف ليدفنوه هناك بالقرب من أمير المؤمنين الإمام التقي علي بن أبي طالب عليه السلام …..في هذه اللحظة شعر رضا بحزن عميق يمزق فؤاده من الداخل وان ظلاما دامسا خيم على المكان في وضح النهار تمنى لو انه رافقه حتى في الموت … ذهب ذلك الرجل الذي عاش غريباً طوال سنين في وطنه وأرضه لم يذق راحة في حياته ومع ذلك كان يسعى ليصنع الابتسامة على أفواه الآخرين … لم يراه مرة يبكي لاجل نفسه … لكنه كان يبكي من أجل الآخرين من أجل الفقراء أمثاله …ومن أجل الأطفال الذين تسكعوا في الشوارع للتسول… ومن أجل امرأة طاعنة في السن تبيع علب السكائر الرخيصة … ومن أجل عاجز فقد قدماه في ويلات الحروب يتمركز في قلب الطرقات لعل الآخرين يتصدقون عليه ….آآآآآآه….حسرة كبيرة لابد أن يقذف بها رضا من خارج أعماقه وإلا فإنه سيختنق…سقط أرضا ليجهش بالبكاء ….البكاء….فحين يبكي الرجال لابد أن نتأمل هذا البكاء….لابد لنا أن نعي أن خلف هذه الدموع ألم كبير يحرق الروح …ويصمت له صخب الحياة ….كان نحيبه يجعل المارة في طرقات المستشفى يتأثرون من اجله وينحون أسفلهم ليهدئوا من عاصفة حزنه العنيف …. رغم ان رضا بائع الشاي تقي ومؤمن بأن قاسم لاقى ربه وأنه سيكون بيد خالقه وسيكون هناك أفضل حالا …إلى أن فراقه كان شديد الورع عليه وقوة بنيته هي التي جعلته ينهض نحو باب المستشفى الخارجي ليتجه حيث تقوده قدماه وحيث لا يدري … وكأن غيبوبة قد أصابته بعد عاصفة هوجاء تشبه ما يوصف في ( تسونامي ) ولا يدري أين المطاف ؟؟ مازالت الدموع تسقط بغزارة صامته وكأنها أنهار ثائرة تفجرت في أرض جرداء… وقدماه يشعر أنهما التصقا بالأرض فأخذ يجرهما ليصنع منهما خطوات ثقيلة … الصندوق … الصندوق الخشبي هو الآن ما تبقى من ذكريات صديق بائع الشاي … ما سر هذا الصندوق ؟
توجه نحو الاستعلامات ليستلم صندوقه الخشبي الصغير … وبعد برهة من الوقت لا يعرف رضا كيف وصل إلى بيته … ولا يستطيع أن يميز العبارات التي كانت تقولها له زوجته … قبضت يده مطرقة حديدية لكسر بقوتها قفل الصندوق الصغير… وجد في الصندوق مصحفا صغير و كتابا يحمل بين ثناياه رسالة السيد الصدر ( قدس سره الشريف) وتحتهما ورقتان الورقة الأولى ورقة مكتوب بها بعض العبارات وهي ( ابني رضا / طالما وجدت بك الابن البار التقي الذي افتقدته فإني أعلن أنك أبني الذي لم ألده لذلك لي وصيتان أريدك أن تنفذهما الأولى أن تجعل كتاب الله عز وجل منهاج حياتك ومنهاج آل بيته عروتك الوثقى ورسالة السيد محمد الصدر (قدس سره الشريف) النبراس الذي ينير دربك , أما وصيتي الثانية هي يوجد ورقة طابو منزلي الذي منحته لك لأنني ليس لدي ولد غيرك وأنت تستحقه لأنك دون منزل تملكه وتعيش في الإيجار , فدائما أتذكر أنك تقول ليس لديك حلم غير أن يكون لديك بيت صغير تملكه على أرض العراق وطنك الذي لم يوفر لك حتى غرفة تملكها وأن تتخلص من مشاكل الإيجار الباهظ , كل الأوراق التي تثبت ملكيتك ستجدها في الصندوق فقط اذهب إلى المحامي الذي ستجد رقم هاتفه في أعلى هذه الصفحة هو سيساعدك وأعذرني ياولدي لأن بيتي متواضع جدا قد لا يكون البيت الذي حلمت به لكن لايمكن أن ترفض هبة والدك كما أني تقصدت أن لا أخبرك بمرضي الذي رافقني منذ فترة حتى لا أصنع الحزن على وجوه من احب ……………والدك قاسم ).
في هذه اللحظة لم يشعر رضا إلا بأضلعه تتعانق ألما وكأنها تصافح روحه الأليمة ,غيبوبة الصحو تلاطم أمواجها فكر رضا …حملت يداه كتاب الله وقبله بخشوع فوضعه بلطف مرة أخرى في الصندوق ثم أخذ الكتاب فأمعن النظر بين صفحاته بشغف ليعرف أنه قد حصل على كنز حقيقي هذا اليوم , أغرورقت عيناه بالدموع التي يحاول أن يفيها تحت جفونه لعل زوجته لا تلاحظها , فتمتمت شفتاه برعشة باكية , لن تموت أنت لن تموت أيها الوالد الصديق .

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.