موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

رازونة بغداد

هذه ليلة شتوية قوية لا شبيه لها من أخياتها الفائتات . هبطت من الحانة ، وخلّفت صحبي يكركرون على مسمع نكتة سخيفة . يكاد وسط البلدة يخلو من الكائنات اليومية . ثلج أبيض مثل عيد ميلاد مجيد . لم أكن حزيناَ أو يائساَ أو منهكاَ ، لذا قررت الرجوع الى داري بوساطة ساقين قويتين راسختين مثل رقم دعش . ثمة أمرأة عجوز طمست سيارتها بثلج العيد ، وأصاب عطب فادح احدى العجلات . أقتربت منها ، فوجدتها وجها مصنوعاَ من حيرة . زرعت حقيبتي فوق الرصيف الأبيض . غصت تحت المركوبة وأصلحت العجلة ، ثم أنشبت عشري بظهر السيارة ودفعتها حتى ذروة الجبل . بباب بيت السيدة العجوز ، تلقيت ابتسامة وامتناناَ ودعوة لتدفئة بطني بكاسة شاي منعنعة بالنعناع . بست السيدة من جبينها المخدد ونزلت الجبل حيث تركت حقيبتي . لم أجد سوى قناديل زرق مصلوبة فوق سواري سود تكاد لا تضيء . في أول استدارة مهزومة صوب الدار ، كان بوسعي أن أنصت الى حمحمة أنفاس يائسة . رجل سمين مشمور على مبعدة من حاوية زبل عملاقة .

 كانت تنقصه ربع دقيقة كي يموت بأمان . قلبته على ظهره ، ووضعت كفي اليسار ، مخدة تحت رأسه الثقيل . نظفت حلقه من بقيا قيء نتن ، ونفخت فيه قبلة الحياة ، وصنعت له متكأ من حائط أمين . خلعت قمصلتي الثقيلة المعمولة من موت أربعة خرفان ، وأشعلت له فاكهة الشتاء . شعر بدفء عظيم ، وقبل أن يغفو فوق ذراعه ، مدّ لي يده المحتفلة بالسلام . ليلتي السعيدة لا تريد أن تنتهي . رجل ضخم بيمينه سيف بتار ، يركض خلف رجل ضئيل خواف ابن خوافة . ألرجل الخواف ، لبد بظهري وبال في سرواله ، والرجل الضخم شائل سيفه اللماع . سألت ابن الخوافة سؤالاَ ، فأجاب ، وسألت القوي الأرعن ، سؤالاَ فأجاب ، ثم تركتهما يتناوحان ، ويرشّ واحدهما فوق خدّ الثاني ، سطلة بوسات . ليلتي الحلوة المدهشة ، انفتحت الآن على حشد مخبول . واحد يحضن صحن فول العوافي ، يسوّره سبعون جائع وجائعة . قلت لصاحب صحن العوافي : أن أعطهم مما يزيد ؟ حرن وأشاح بوجهه الجرذي عني وقال : أمش أيها المجنون ، فليس عندي سوى صحن فول ورغيف خبز مثلوم . قلت : فلنجرب الأستطعام بطريقة اللطعة ؟ قال : وما هي – أخزاك الله – طريقة اللطعة ؟ قلت : ازرع الصحن وسط السبعين ، وليطمس كل واحد منهم ، أصبعه السبّابة بخاصرة الصحن ، ويلحسها لحسة رضا ، فيتم الشبع . وافق الحشد ، وأمتلأت بطونهم بالعافية ، وشعّ النور من على وجناتهم حتى صاروا الى قناعة لا تفنى . بمائة غرزة ثلج صوب الدار ، ثمة طائر ملون يتبرغث ، والثلج يثقل جناحيه . شلته برفق ودسسته تحت قميصي المتين . من زر القميص العالي ، لفحت طير الحب ، بأنفاسي الحارة ، فرفرف وغنّى . أخرجته من دفء عبّي ، وأرتقيت به شجرة عظيمة . كان عشّه والعيال ينطرون . صار الغناء ، تراتيل فجر بهيج . ما تبقى من شارع الليلة ، هو شبابيك وروازين وكوى تتضاوأ . رازونة يشعشع منها الأحمر الخافت ، وصدحة متأخرة لأم كلثوم : هذه ليلتي وحلم حياتي . رازونة ثانية ، خلفها طلق أحبل بقصيدة نثر عصية ، وعلبة سكائر خاوية ذاوية مثل تابوت مهجور . رازونة ” وطنية ” يتناوب على تأثيثها ، ألشيخ امام وأحمد فؤاد نجم . رازونة مشعة ، يخرج منها حوار جادّ – كم كرهتها – أما رازونة داري المبروكة ، فيبدو أنني لم أصلها بعد . فلم السهرة ، طويل ومثقل بتفاصيل مملة ، وشكل البطل فيه ، يوحي برائحة منفرة . سأطفىء التلفزيون الآن . روحوا ناموا ، قبل أن أفتح عليكم رازونة بغداد وهي تغني :

على شواطي دجلة امر ، يا منيتي وقت الفجر ، وكت الفجر !!

 

 

ألرازونة : نافذة صغيرة مثل كوة في جدار ، وقد تستعمل كرفّ حوائج .   **  

 

 

 

علي السوداني

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.