موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

صناعة الأوهام ونصوص الإحالات المرجعية – – وكالة ذي قار


في ديوان “العناية بالرماد”

د. سمير الخليل

       إن فكرة إجراء حوار ثقافي مع النص الشعري لا تحتاج لإشراك الشاعر أو “أنا القصيدة” كنتيجة ضرورية لها لأن اللُّغة الشعرية تتكلم لذاتها سواء أكانت منطوقة أم مكتوبة، حسبما يؤكد جدل النقدية الثقافية، وهو لهذا السبب لا يحتاج إلى إشراك الشاعر، إذ أن من الممكن إجراء حوار مع النص فقط، من غير وضع شبح “مخوّل” وراء النص، ونظراً لأن التعامل مع الشاعر، وكأنه غائب في أثناء قراءة النص يعد إجراءً جيداً، فلا بد أن نعترف أيضاً أن بمقدور النص الإجابة عن الاسئلة إذا كان السائل يبحث عن تهدئة لشقائه العقلي، وبهذا المعنى ربما يكون النص شريكاً في الحوار بعيداً عن مؤلفه، نظراً لأن النص يقول دائماً ما يقصده ولا يغير رأيه مطلقاً ولا يناور في انتقالاته بين المواقع الأيديولوجية المختلفة.

       هذه الأفكار استوحيناها من قراءة المجموعة الشعرية الموسومة بـ(العناية بالرماد) الصادرة عن دار لندا للطباعة، سوريا، 2015، للشاعر الدكتور “كريم شغيدل” وأفكار أخرى كثيرة حول الاختلاف الجوهري بين وظيفة الشعر الإحالية ووظيفة النص الاعتيادية، فالملفوظ الشعري يشتمل –دائماً- على سياق يحيط به ويضمن له إمكانية الإحالة ، وبإمكاننا التأكيد على أن النص الشعري لا يمثل تأويلاً ثقافياً للحوار فحسب، بل في الوقت نفسه تأويلاً للإحالة ، وفي الوقت الذي تعني فيه لفظة “يُحيل” في الكلام لفظة “يُبيّن” أو “يُظهر” – غالباً – فإن السياق أو الموقف في الكتابة الشعرية يكون غائباً، كما في إمكانية الإحالة الظاهرية المباشرة، ومع ذلك ، لابد أن ننوه إلى أن إحالة النص مُعترضة، ولا يمكن وضع حد تام لها على الإطلاق، كما نرفض – أو لا نحبذ- ما يسمّى بـ”أيديولوجيا النص المطلق” والتي يقال فيها إن النص متمتع بالاستقلالية والخلو من السياق. حيث لا وجود للنص من غير إحالة ما. من هنا ستكون مهمة القراءة بوصفها تأويلاً، هي إقامة هذه الإحالة حصراً وتأطيرها لتكون واضحة للعيان ومكشوفة . وفي حالة “التعليق” الذي تؤجل فيه الإحالة ، يكون النص، بمعنى ما “معلقاً في الفراغ”، في أقل تقدير، أي: خارج العالم أو من دونه. وبفضل هذا الإلغاء الذي يُطال ارتباط النص بالعالم يكون كل نص حراً بالدخول في علاقة النصوص الأخرى كلها، تلك التي تأتي لتحل محل الواقع الظرفي (الزماني والمكاني) الذي يظهره الكلام الحيّ.

       إن علاقة النصوص بإحالاتها المرجعية – عند تلاشي أي مسوغ تأويلي- هي التي تولد عالماً خاصاً بالنصوص، هو عالم صناعة موضوعات الشعر الأثيرة، وقد انقسمت هذه التقانة في مجموعة (العناية بالرماد) إلى قسمين:

1- صناعة الأوثان / نصوص الإحالات المرجعية:

       ((نحن الراكعين في معابر البلاهة/ ألفتنا الأوبئة/ فإنهمكنا للعناية بالرماد/ وبالمصائر الغامضة لقتلى الحروب الإلهية القديمة)) (ص18). ((ستصنع من طين بلائك آلهة/ تتوسلها وتقضم أناشيدك أسفاً/ على عواصف مرت/ ولم تهدم معابدك المظلمة)) (ص23 وما بعدها). ((نحن الباحثين عن كأس مقدسة/ تآكلت وتلاشى أثرها/ تحت رماد حروب قديمة/ نقتل كآخر سلالة وثنية/ هزت العرش أناشيدها/ أو كآخر ورثة لغز نبيّة تزوجت إلهاً/ وأخفى سرها الكهنة/ هكذا هي حكايتنا الغامضة)) (ص71 وما بعدها).

       على الرغم من قيمة القول الذي يفيد بأن إحالة النصوص إلى نصوص أخرى يخلق مادة الأدب غير أن هناك اختلافاً بين النصوص القريبة من بعضها جداً، أي النصوص الثانوية والظرفية، والنصوص الشعرية والابتدائية. وبسبب هذا الاختلاف الظاهري يتم التفريق، غالباً بين النصوص الاعتيادية والنصوص المحايثة. بين النصوص ذات السياق المعرّف بوضوح أكبر والنصوص التي تبدو خالية من السياق، النصوص الذاتية التي تقع خارج نطاق العالم أو بدونه، ويمكن القول عن هذه النصوص الأخيرة إنها خارج نطاق العالم وبدون إحالة خارجية قدر ما تحيل إلى ذاتها وتخلق عالماً خاصاً بها. ولا يمكن تحويل إحالة النصوص إلى محض علاقة لهذه النصوص مع غيرها، لإن مثل هذا التحوّل يطعن بتفردها وفرادتها الأساسيتين، فهي تدخل في صناعة الأوهام:

2- صناعة الأوهام / النصوص الذاتية:

       ((هكذا في كل حرب/ تلتبس على المشيعين/ أسماء وأسمال)) (ص71). ((شعباً تطوف به الحرائق)) (ص83). ((استعارات وهم وعكازات غموض)) (ص85). ((فيالوحدتها المأهولة بالعابرين)) (ص95). وهي آخر جملة شعرية في المجموعة.

       لا يوجد سوى القليل من النصوص المعقدة التي تحقق فكرة النص من غير إحالة. ونظراً إلى أن الشاعر “كريم شغيدل” من خلال هذه النصوص يعتقد أن جميع القصائد لابد أن تكون (أو تتكلم) عن شيء ما، لكن من غير وجود إحالة ظاهرية في هذه النصوص المسبوكة بشكل فني باهر، لذا فهو يعتقد أن إحالة هذه النصوص ليست إلى شيء “في” العالم وإنما إلى العالم بحد ذاته، أو بتعبير آخر، أن الإحالة ليست إلى العالم، وإنما إلى واقعية العالم، فكل شيء ممكن حدوثه في واقعية فجة: ((ساقتنا طبول الرعاع/ قطعان هزائم/ وحكام بسالة/ وأيتام أرياف قاحلة)) (ص48). ((فدمي محض مؤونة/ لاقتتال برابرة وبدو وأوباش)) (ص62)

       تبين مجمل النصوص الشعرية أن الشاعر ليس معرضاً لفكرة المحايثة في كتابة الشعر طالما أنه يفسح المجال هنا أمام النص ليخلق عالمه الخاص به بدلاً من تضييق نطاق إحالة النص الشعري إلى عالم الواقع اليومي والمعاني الاعتيادية المرسخة سابقاً، ولذا يرغب الشاعر أيضاً في التأكيد على أن النتاج الأدبي لا يعكس زمنه فحسب، بل يكشف عن عالم يحمله بداخله ، كما يوحي أن منفذنا إلى الشعرية المكتملة (والكمال لله وحده جلَّ في علاه) منفذ فنتازي (تخييلي) يراهن على “مقصدية النص الشعري” ذاته، وهو بذلك يهتم اهتماماً كبيراً برشاقة الجملة الشعرية، وتواصليتها مع المتلقي إن كان نخبوياً أو متوسطاً أو عادياً.

       أما عن العنوان (العناية بالرماد) فهو لوحده نص مكتف بإحالاته المرجعية، إنه يستهدف ترميم وصيانة ما تبقى من خراب الحروب، وما تبقى هو أكوام الرماد وأكداس الذكريات المؤلمة، وأولاد الرماد وأرامل وثكالى الرماد، مئات الآلاف بل ملايين من النفوس الضائعة الهائمة في رهبوت لا يمكن أن يكون آدمياً بالمرة.





التعليقات مغلقة.