موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

ضرورة مهاجمة الفلسفة بـ قلم إيرين جوميز أولانو (مترجم)- وكالة ذي قار


كان الموضوع الأساسي للفلسفة هو الفلسفة ذاتها، فقد تكاثرت على مدار تاريخها العديد من المقالات والكتب التي ألَّفها الفلاسفة تعبيرًا عن فكرهم الخاص، وهذا التكاثر يحيلنا إلى سؤال غالبًا ما يقابل بالتجاهل والتغاضي عنه، يتعلق بطبيعة الفلسفة وغاياتها، فتغدو الفلسفة بذلك سؤالًا حول ذاتها، الأمر الذي أثار نزاعًا وجدلًا كبيرًا. لكن، لماذا الفلسفة مولوعة بمساءلة ذاتها؟ أو بالأحرى لماذا تهتم الفلسفة بالأفكار التي أُنتِجَت في كنفها، التي خرجت من أحشائها؟ لماذا هي مهووسة بنشاطها؟

ربما لأنَّ ما تنتجه الفلسفة يقتضي بذل جهد مضاعف في تبريره وتسويغه، لذلك يلجأ الفلاسفة إلى حمايتها بالغاية المرجوة منها، فينافحون عنها من هذا المنطلق، فبقاؤها رهين بفائدتها، وفائدتها كامنة في غايتها، وهو الأمر الذي أدى إلى نشوء ثلاثة أساطير ابتدعها الفلاسفة حول غايات الفلسفة، وهي: 

  1. الأسطورة الأولى: الفلسفة لا فائدة ترجى منها، وكل ما لا فائدة له فهو خير في ذاته.
  2.  الأسطورة الثانية: لا توجد حياة جيدة بدون فلسفة.
  3. .الأسطورة الثالثة: الفلسفة العملية تَنَاقض.

الأسطورة الأولى: الفلسفة لا فائدة ترجى منها، وكل ما لا فائدة له فهو خير في ذاته

 تميل هذه الأسطورة إلى إماطة اللثام عن عدم جدوى الفلسفة، وإنَّ في ذلك مدحًا لها أكثر مما هو قدح فيها، وإعلاء من شأنها أكثر مما هو انتقاصًا من نشاطها. وقد انتشرت هذه الأسطورة في أوساط الفلاسفة المعاصرين، إذ اكتست طابع الأطروحة التي يناصرون بها التفكير الفلسفي، ومن أشهر هؤلاء، الفيلسوف الإيطالي «نوتشيو أوردين- Nuccio Ordine». إذْ حسب هذا الاتجاه لا تتحدَّد الفلسفة بما نجني منها من منفعة أو ما يتحصَّل منها من مصلحة أو بما تحدثه من أثر ملموس في الحياة، ذلك أنَّ فكرة المنفعة هي فكرة إذا ما ارتبطت بالفلسفة ارتباط لزوم واستلزام فإنها تلوِّث صفاءها وتلوِّث نقاءها وتدنِّس حرمتها وتخنق روح التحرُّر فيها وتطوِّعها.

ويؤكِّد المدافعون عن هذه الأطروحة أنَّ المنفعة تفسد العمل الفلسفي الخالص، فقد يكون البحث في مقبرة الموتى أمرًا لا يحمل منفعة للباحث فيها، غير أنَّ انعدام المنفعة لا يجب أن يصرفنا عن جمال المقابر الأثري والتوضيحي الذي يكفل لنا معرفة أصول حضاراتنا، وبالفهم نفسه، غالبًا ما يُنظَر إلى الفلسفة بوصفها خادمة لشيء ما أو جالبة لمنفعة ما، لكن طالما أنها تنأى عن السعي وراء تحقيق المنفعة وتحصيل الفائدة التي تفتقر إلى الوجاهة والنزاهة لاقترانها بالسلطة، فكل فائدة تملى من الخارج أي من سلطة خارجية لا يجب أن نثق بها،  فإنَّ مفتاح الفلسفة يمكن العثور عليه في غائيتها وقصديتها أكثر من نتائجها ومنفعتها.

 يشاكل شأن الفلسفة شأن ما يسمى بـ ” اللغات الميتة “Lenguas muertas) )، فبالرغم من أنها لا تدخل ضمن مجال تداولي لمجتمع معين ولا تساهم في بناء المعرفة الراهنة، فإنها تساهم في تكوين فهم عميق لبنية مجتمعاتنا، كما أنَّ فائدة الفلسفة بدورها لا تنتفي بانتفاء نزاهتها، بل تتعزَّز إذا ما حُوِّرت لتتماشى مع الغايات الإستطيقية (Estética) التي تطمح إلى بلوغها. إذًا ففائدة الفلسفة ليست مادية، بل جمالية.

وتتحدَّد المشكلة الأساسية في هذا الاتجاه من التفكير أنه يتبنى دون نقد فلسفة لا تتصل بالواقع، في حين أنَّ كل منظومة معرفية إنما تأسَّست على أسس واقعية، فلا شيء أبعد من الواقع، والفلسفة لا تستثنى من هذه القاعدة، إذْ كانت ولا زالت وسيلة تُسْتخدَم لإعادة الإنتاج الآيديولوجي لقيم اجتماعية معينة تفرض نفسها في فترة تاريخية، حتى عندما تبنَّى الفلسفة من التصدُّعات والشروخ الاجتماعية أو من طرف أشخاص مراقبين، فإنها تسوِّغ تصوُّرات سياسية معينة لأن هذا جزء من طبيعتها وليس استثناء.

وإنْ قلنا أنَّ الفلسفة لا جدوى لها واقعيًا، أي أنها لا تمارِس تأثيرًا في الواقع، والواقع لا يمارس تأثيرًا فيها، فإننا نسلِّم بأنها تتسم بالموضوعية، والموضوعية مجرد أسطورة ابْتُلِي بها الفكر، وأفضل طريقة لتقديم معرفة فلسفية وعلمية بأكبر قدر من الوضوح والموضوعية هي الاعتراف بالمصالح والتحيُّزات والأهداف التي تنطوي عليها هذه المعرفة، وهذا ما سعت الماركسية إلى فضحه، وبعدها النسوية في القرنين التاسع عشر والعشرين.

 لذا، نعود ونقول إنَّ الفلسفة ليست “لغة ميتة ” ولا يمكنها أن تكون كذلك حتى ولو أرادت، فلا يسعها أن تبتعد عن الواقع الملموس والمادي بالرغم من التأمُّلات التي تمارسها وتقذفها خارج الواقع، إنَّ الفلسفة لا يمكنها أن تخلو من الفائدة، وتقديمها كمادة فارغة من الجدوى يعني إنكار دورها كجهاز آيديولوجي واقعي.

الأسطورة الثانية: لا توجد حياة جيدة بدون فلسفة

تختلف هذه الأسطورة عن سابقتها، فبينما تؤكِّد الأولى أنَّ الفلسفة لا يجب أن تكون لها أي فائدة، بمعنى أنَّ فائدتها ينبغي أن تكون مقصورة على ذاتها، فإنَّ أنصار الأسطورة الثانية يرون أنَّ الفلسفة لا غنى عنها في الحياة، فحضور الفلسفة في حياتنا يجلب التنظيم وحسن الإدارة إليها، وفي غيابها تتحوَّل حياة الإنسان إلى فوضى غير عقلانية، فالمعرفة الفلسفية تسحبنا من دائرة “الحياة الحيوانية” إلى دائرة “الحياة الإنسانية”.

غالبًا ما تُستغَّل هذه الأطروحة للمنافحة عن الفلسفة ضد منتقديها وضد الحكومات والسياسات التعليمية التي تحاول طرد التخصُّصات ذات العلاقة بالفلسفة والعلوم الإنسانية من المراكز التعليمية، وتطرح هذه الأطروحة الفلسفة كضامن أخير للمواطنة النقدية والواعية.

وتتمثَّل مشكلة هذه الأطروحة في أنها ترفع الفلسفة إلى علياء الفكر وتضعها في برجٍ عاجي تحدِّد فيه المناسب وغير المناسب من حياة البشر دون أن تتغلغل إلى أغوار هذه الحياة، وليس هنالك ما يضمن لنا أن تكون الفلسفة خادمة للمواطنة الواعية والنقدية ما دام الناس لا يفهمون الخطاب الفلسفي، لذلك فما سيجعل الفلسفة ضرورية حقًا في المجتمع هو أن تكون مفهومة عند الجميع.

والمشكلة لا تقتصر على الفلاسفة، فنحن نعيش في مجتمعات يغدو بناء المعرفة فيها مرهونًا بالجامعات ومراكز البحوث التي أضحت نخبوية بامتياز، وإذا كانت الفلسفة ترنو إلى تنصيب ذاتها كأداة نقدية، فينبغي عليها أوَّلًا أن تشكِّك في البنية ذاتها التي تتحدَّث منها وتصدر منها أحكامها، وتعمل على إضفاء الطابع الديموقراطي على نشاطها كي لا يبقى حبيس النخبوية، فتكون المعرفة التي تنتجها ملكًا للجميع لا حكرًا على فئة بعينها.

قد يعجبك أيضًا

وثانيًا، ينبغي على الفلسفة أن تؤمن بأنَّ الحياة يمكن أن تكون جيدة خارج حدودها، والملحوظ أنَّ جانب النخبوية يحضر بقوة في الفلسفة، وأمارة ذلك أنها قطعت مع التخصُّصات الأخرى، فبدأت تتخيَّر منها ما يستحق أن يُختار، هنا، من البديهي أن يكون الجزء الأكبر من التفكير النقدي قابعًا خارج حدود البوليس الفلسفي. 

وإذا تأمَّلنا الفكر الفلسفي المعاصر، سنجد أنَّ أكثر الذين انتقدوا الفلسفة كانوا ينتمون إلى حقول خارجة عن الفلسفة ولكن أصبحوا فلاسفة بانتقادهم، فهذا أشهر فيلولوجي في القرن التاسع عشر، فريديريك نيتشه  ينتقد بشدة الميتافيزيقا لا لشيء إلَّا لأنَّ الفلسفة انجرفت كليًا إليها، فسعى إلى إذكاء جذوة الفكر ومعارضة تاريخ الفلسفة.

وهذا أيضًا ماركس الذي انتفض ضد النزوع التأملي للفلسفة، إذ يقول إنَّ: “الفلسفة لم تفعل شيئًا أكثر من التأمل في العالم وإصدار تأويلات حوله، في حين أنه يجب تغيير العالم”، إضافة إلى أن ماركس قد عرى عن الطابع الآيديولوجي الذي تخفيه الفلسفة.

إذا أردنا للفلسفة أن تضطلع بدور في خلق حياة جيدة للجنس البشري، فإننا سننتقدها أوَّلًا، وسنجعل مبادئها مجرد افتراضات واحتمالات لا حقائق ويقينيات، خاصة أنَّ الفلسفة لا تسلم من تأثير الآيديولوجيا، إذ ارتبطت بالنزعة الذكورية الأوروبية ولم تدمج الأصوات الجديدة إلَّا عندما جاءت بقوة لتطالب بمكانتها في تاريخ الفكر. 

الأسطورة الثالثة: الفلسفة العملية تناقض

إن المذاهب التي تدافع عن الفلسفة كثيرة كثرة المذاهب التي تعاديها، فمنطقة الفلسفة متنازع عليها، ومؤدَّى ذلك أنها تتكوَّن من نظريات تتشابك مع التحديات المادية التي تواجهها، واليوم لا نستطيع أن ننكر أنَّ منطق المادة بات يحكم تعاطي المؤسَّسات والجامعات مع الفلسفة، إذ تخصَّص لها موارد ضئيلة، ويثوي هذا المنطق خلفه نقاشات حادة من داخل الفلسفة ذاتها تنصب على ما إذا استحَّقت أن تكون صالحة أو غير صالحة.

 تُنبِّهنا الفلسفة اليوم لحالة اللا توازن (Desequilibrio) التي باتت تسمُّ عالمنا، فأصبحنا معرَّضين لهشاشة وجودية نابعة من عبثية الوجود، وهشاشة مادية ناتجة عن النظام الاقتصادي الذي همَّش طبقات اجتماعية كبيرة، والفلسفة نفسها لم تسلم من هذه الهشاشة وهي تدأب إلى بلوغ الاعتراف الاجتماعي والتنافس على الموارد الاقتصادية، إنَّ الفلسفة مقحمة في لعبة تنافسية.

إضافة إلى ذلك، لا شك أنَّ الذين يدرسون تاريخ الفلسفة يدركون أن الفلاسفة كانوا يرون أنَّ ما يمارسه الآخرون في الحقول المعرفية الأخرى ليس فلسفة، والواقع أن انتعاش فلسفات اللغة والمعرفة في ارتباطها بالحوسبة وعلم الأعصاب في القرن العشرين قد جعل الفلسفة تواجه تحدِّيًا وصراعًا نتج عن مناكفة العلوم لها، وهنا يجب أن ننتبه لموقفين تخلَّلا علاقة الفلسفة بالعلوم، الموقف الأول تحليلي يرى أنَّ موضوعات الفلسفة كاللغة يجب أن تحاور العلوم لا أن تتعاند معها وتشاغبها. الموقف الثاني هو قاريّ يراهن على أن يكون التركيز على اللغة منصبًّا على الفيلولوجيا والأدب. إنَّ تصادم هذين الموقفين قد أحدث هوة فاصلة بينهما، هذه الهوة قد جسرت فيما بعد لتمر عليها الانتقادات والاتهامات.

وما زلنا اليوم نشهد أنَّ النقاشات والسجالات الدائرة في حقل الفلسفة تتعلق بالجدل الذي أثير حول مكانتها،  وكانت بمثابة موضع الجرح للفلسفة، وهو الأمر الذي أيقظ مجموعة من الشبهات المبررة التي صنعتها الأديان الحديثة ذات النزوع القوي اإلى الإيجابية والاستهلاك.

وظنُّ هذه الشبهات، نجد الدفاع عن الفلسفة بوصفها معرفة لا جدوى منها كما سبق الذكر، وهذا فهم لا يخلو من تغليط وتضليل وتدليس لأنَّ الناس تقدِّم هنا معيار الفائدة كما لو أنه الثوب المناسب للسلطة أو النظام، كما لو أنه لا يمكن أن تكون هناك فلسفة ذات طابعٍ عملي تتداخل مع الواقع وتمتزج معه، وهذا ما أشار إليه الفيلسوف خافيير كوريا رومان.

قد يعجبك أيضًا

إذًا، فالفلسفة العملية ليست فقط تناقضًا، بل هي رهان فكري يجب أن ندافع عنه أمام أولئك الذين يرون أن الفلسفة لا تكتسب معنى إلَّا في رهانها على المجهول، أو أمام أولئك الذين يعتقدون أنَّ كل نظرية بالفعل هي ممارسة، وأنَّ ماركس كان مخطئًا في انتقاد الطابع التأملي للفلسفة، لأنَّ قدرتها على التحول مضمنة بالفعل في إمكانياتها، يجب أن نذكر دائمًا للفلاسفة أن مكانتها الأكثر شيوعًا هي عدم الأهمية الاجتماعية، لنخرجها منها.

تكون الفلسفة لنا أو لا تكون:

لقد كتب الكثير في الفلسفة عن احتقار الجسد وتمجيد العقل، ولكن القليل قد كتب عن المشكلات الأخلاقية والسياسية، بل إنَّ هذه المشكلات قد انسلَّت من ربقة الفلسفة لتقع موضوعًا في العلوم السياسية والاجتماعية، ومردُّ ذلك أنها -أي الفلسفة- قد انشغلت بالعالم وتهوَّست بالذات، في حين أنَّ مهمتها العملية هي تعرية وفضح الأجهزة الآيديولوجية التي تسهم في خلق حالة من اللا توازن.

ويجب على الفلسفة -إلى جانب ما سبق- التفكير بإبداع في الممارسة العملية بدل الاقتصار على ممارسة النقد، صحيح أن النقد يقبع في صميم التفكير الفلسفي، لكنه ينبغي أن يكون مقرونًا بإرادة التغيير بغية تصوُّر حلول مبتكرة للمشكلات المجتمعية الكبيرة، مثل أزمة المناخ.

وانطلاقًا مما سبق، تتحوَّل المعركة من كونها جدالًا مجرَّدًا أو جزئيًا هامشيًا إلى مسألة ذات أولوية. من الضروري تطويق الفلسفة. تأتي إلى ذهني كلمات تُنْسَب إلى المُنَاضلة الأناركية «لويز ميشيل- Louise Michel» في ذروة باريس الشعبية، أول حكومة عمالية في التاريخ: “سوف تكون باريس لنا، أو لن تكون أبدًا”. ينبغي على الفلاسفة الذين يفهمون أننا لا نعيش في أفضل العوالم الممكنة (غوتفريد فيلهلم لايبنتز – Gottfried Wilhelm Leibniz) أنه يجب علينا إقامة فلسفة خاضعة للمشكلات الاجتماعية الكبيرة ومقاومة الفلسفات التي لا معنى لها.


رابط المقال:

 https://filco.es/irene-gomez-olano-objetivos-filosofia/


ملاحظة: الترجمة من اللغة الاسبانية الى اللغة العربية





المصدر

التعليقات مغلقة.