موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

دلالات الخطابة وتجليات اللغة في قدرة الخطيب وبراعته على امتلاك القلوب

دلالات الخطابة وتجليات اللغة في قدرة الخطيب وبراعته على امتلاك القلوب

خطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم

بعد توزيع عطايا معركة حنين أنموذجا

 

فاهم وارد العفريت – العراق

 

 واجهت الدعوة الإسلامية ومنذ أول ظهورٍ علني لها أعداء من مختلف الطبقات الاجتماعية والدينية والسياسية من مشركين ويهود ونصارى وقبائل يتسمون بالحقد والبغضاء والحسد والعنف المركب وخاصة من علية القوم في قريش ومن اتبعها من القبائل الأخرى.

 لذلك تواصل العزف بسيوف الحقد والإيذاء حتى غدت إنثيالات هذا الواقع جراح دائمة النزف في ذات هؤلاء الذين أصبحوا طاقات محتشدة لاحتضان مبادئ الدعوة الجديدة والتماهي بعيداً للدفاع عن أسس ومرتكزات هذا الدين الفتي الذي رسم لهؤلاء المنتمين له عوالم متقدة

بالإيمان المطلق بكل ما ينطق به قائد هذه الفئة المستضعفة بما تنبض به بعدد قليل من الفقراء والعبيد الذين تجاوزوا الذات مع خطب وآيات القرآن الكريم التي كان يبشّر بها الرسول محمد صلى الله عليه واله وسلم ليكون اتجاه بوصلة تفكيرهم وعملهم نحو هموم الناس جميعاً حتى يخرجوا من الظلمات الى النور ، ليشكلوا بقلة عددهم نواة لتأسيس أمة تحمل أبجديات العدل والمساواة لتنطلق بها نحو فضاءات تتشظى منها المبادئ السامية لجعل كل الناس وبمختلف مستوياتهم وألوانهم ولغاتهم وقبائلهم أمة واحدة ترتكز على قيم إنسانية زاخرة بالصور الموحية والمواضيع الطافحة بكل معاني التضحية والإيثار المؤطر بقوة الإيمان التي حملها هؤلاء المؤمنين .

وبموضوعنا هذا نشد الرحال بعيدا حيث تتمثل أبجديات تلك السيرة العطرة التي فاح أريجها لتصبح مادة الجمال والألق الدائم في كافة أدبيات وثقافات المجتمعات الاسلامية على مر العصور والسنوات ، لذا سنحط رحالنا عند خطبة من خطب الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم لنتناول مع عبير كلماتها دلالات الخطابة وتجليات اللغة المؤثرة الخاصة بقدرة الرسول على امتلاك القلوب والعقول في خطبه مما جعل تلك

الخطب تسري مسرى الدم في أجساد المسلمين ولتبقى خالدة في كافة تجليات الحياة ومادة خصبة للبحوث والدراسات والكتابات المختلفة.

فبعد انتهاء معركة حنين التي حدثت في 13 شوال من السنة الثامنة للهجرة ودارت رحى مواجهاتها بين المسلمين وقبيلتي هوازن وثقيف في وادي يسمى حنين يقع بين مكة والطائف،

اذ بعد انتهاء تلك المعركة بانتصار المسلمين شرع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بتوزيع الغنائم او العطايا على المشاركين في تلك المعركة، فكانت العطايا أولا لقريش المهاجرين وغير المهاجرين وخاصة الطلقاء منهم ثم لباقي قبائل العرب، ولم يكن للأنصار فيها من نصيب، وهنا ظهر جلياً عند البعض من الأنصار تمازج الإرث القبلي مع تلك الآلية التي رافقت توزيع تلك الغنائم والمتمثلة

باستثناء الانصار من العطايا، لذلك دخل في نفوس البعض منهم شيء من عدم الرضا على طريقة التوزيع تلك، وقد لعبت العقلية القبلية والانا والشعور بالانتقاص التي أظهرها البعض من الانصار وخاصة حديثي الانضمام للإسلام منهم دورا في اظهار ذلك الامتعاض وعدم الارتياح، لذلك تدخل سعد بن عبادة

لرأب الصدع وذهب الى الرسول صلى الله عليه واله وسلم قائلا له: –

(يا رسول الله إنَّ هذا الحي من الانصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمّت في قومك وأعطيت عطايا في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الانصار منها شيء) فقال له الرسول صلى الله عليه واله وسلم فأين أنت من ذلك يا سعد؟  ” قال يا رسول الله ما أنا إلاّ من قومي ” لذلك طلب منه الرسول أن يهيئ له اجتماعا خاصاً يحضره الأنصار وحدهم، وقد تم السماح لبعض الأفراد من المهاجرين بحضور هذا الاجتماع، فخطب فيهم الرسول صلى الله عليه واله وسلم قائلاً: – (يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم، ألم آتكم ضُلالا فهداكم الله وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف الله بين قلوبكم) قالوا بلى الله ورسوله أمنُ وأفضل، ثم استدرك قائلا ألا تجيبوني يا معشر الانصار؟ قالوا بماذا؟ قال: –

(أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدقتم ولصُدّقتم أتيتنا مُكَذبا فصدقناك ومخذولا فنَصرناك وطريدا فآويناك وعائلا فآسيناك) فلو إننا ركزنا في بداية الخطبة لرأينا الرسول صلى الله عليه واله وسلم انه

استخدم المقاربات الدلالية للمعاني بتذكيرهم في ما قدمه لهم من فضل ومعروف أسداه حين مجيئه ليثرب التي أصبحت فيما بعد المدينة المنورة ، فقد كان مجتمع يثرب غارق في الضلالة فهداهم الله به وعالة بسبب الفقر التي كان متفشيا فيهم فأغناهم الله ، وكادت المعارك الدائمة بين قبيلتي الأوس والخزرج ان تبيدهم فألف الله بين قلوبهم ، وهنا يظهر جليا الاسلوب المؤثر جدا حيث تمكن الرسول صلى الله عليه واله وسلم باختياره الموفق للكلمات التي امتزجت مع وحدة الموضوع ليلج من خلالها الى داخل قلوب هؤلاء القوم ، والذي يعلم بخبرته واطلاعه على ما في قلوبهم وأنفسهم من حب عظيم ومودة قل نظيرها لشخصه الكريم ، ولكن البعض يحاول جاهدا أن يحشّد انفعالات المرحلة وتجاذبات الواقع في سبيل إثراء روح البغضاء وما تحمله نفسه من حقد دفين ضد الرسول ودعوته الكريمة ورسالته الإنسانية السمحاء ، وبعدما ذكرهم بما لله عليهم من نعم وأفضال تجسدت في شخصه ورسالة الإسلام وتعاليمه الإنسانية العظيمة التي زخرت بها  آيات القرآن الكريم وسوره المباركة والتي حملها بوحا مقدسا غرسته همة الرسول وعزمه الدائم أن ينمو

ذلك الغرس في نفوس هؤلاء القوم.

عندها انتقل الرسول الى الجزء الآخر من خطبته حيث بدأها بالقسم بالله العظيم (أما والله لو شئتم لقلتم فأصدَقتم ولصُدقتم ……) فهنا تتجلى براعة الخطيب في إظهار كثافة الصور البلاغية من خلال الارتكاز على الواقع للوصول الى مكامن الذات بلغة صادقة وخيال خصب،

فهنا الرسول ورغم مكانته الدينية كرسول مبعوث من الله سبحانه وتعالى والاجتماعية لأنه يمثل المرجع الاجتماعي الاعلى في المدينة المنورة لحل المشاكل وتسيير امور المدينة المختلفة والسياسية باعتباره القائد العسكري والسياسي لجميع المسلمين، إلاّ إنه ورغم ذلك كله يقول لهؤلاء الأنصار لو إنكم وددتم أن تقولوا تلك المقالة عني فأنتم صادقون ُمصَدقون، وبهذه المفارقة الذكية استطاع

أن يمتلك قلوبهم ويستحوذ على مشاعرهم واحاسيسهم، وبهذا التوظيف استطاع الرسول صلى الله عليه واله وسلم بصدق مقالته أن يضيء الجوانب المعتمة لما شاب عقولهم من تشظيات آنية تحكمها طبيعة الأحداث والمرحلة، على الرغم من أن هؤلاء القوم لا يمكن لهم أن يكلموا الرسول بتلك الصورة أو بهذه الحدة مهما كان

التداخل قويا بين حرمانهم من العطاء ورغبتهم الدائمة والأكيدة في احتضان الرسول صلى الله عليه واله وسلم ومناصرته، فهم أول من فتح مدينته للرسول وللمهاجرين من المسلمين وأول من ناصره وعندهم جرت المؤاخاة، ومنذ أن ابتسمت مدينتهم بقدومه أصبحت المدينة المنورة عاصمة الرسالة الاسلامية العظيمة وعاصمة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم والكثير من المزايا التي تمتع بها الأنصار والكثير من الخطب التي اختص بها الانصار من مديح وثناء لمواقفهم المشرفة لخدمة الاسلام والمسلمين.

إذا هنا تظهر صورة الخطيب واضحة وجلية في استخدام الكلمات والمعاني التي تدهش المتلقي لأنها معبأة بالصور البلاغية الحقيقية والصادقة بعيدا عن الخيال الذي يستخدمه البعض من الخطباء، ولكن الرسول صلى الله عليه واله وسلم قدم لنا خطبة مطرزة باللغة الناصعة التي تألفها القلوب وتأنس لها النفوس لأنها نابعة من دواخل ذاته وهو الصادق الأمين بلا منازع،

فهذا الاستخدام الموفق جدا وكما في جميع خطبه إنه يحمل جميع المعايير الخطابية سايسلوجيا وفلسفيا والتي لا تحمل غرائبية التأويل أو رمزية المعاني بل جاءت بلغة

جعلت الصور والاستعارات الخطابية أكثر التصاقاً بالواقع، لذلك كان تأثير المتلقي لها مباشرا، كذلك أصبح تفاعله مع الخطيب أكثر مقاربة لصدق الإيحاء ووضوح الفكرة، وبهذا استطاع الرسول الكريم صلى الله عليه واله وسلم أن يمسك بجميع المؤثرات التي تساعده على إيصال ما لديه من أفكار ورؤى وكذلك للتأثير على مشاعر المتلقي حتى يكون أكثر انجذاباً وأشد تأثرا ومتفاعلا بصورة تجعله منقادا لما يبوح به الرسول من كلمات وحجج وافكار.

ثم ينتقل سيد الأنبياء والمرسلين وسيد الخطباء والمتكلمين في خطبته الى غرض آخر لا يقل أهمية عما سبقه من كلمات الخطبة إذ قال لهم: – (أوجدتم يا معشر الانصار في أنفسكم فيَّ لعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم الى إسلامكم)

ففي هذه الكلمات بين الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم للأنصار من خلال تلك الإضاءة التي تجمع من هم بحاجة الى المال حتى تألف قلوبهم الإسلام، أما أنتم أيها الأنصار فلستم بحاجة الى ذلك العطاء لأنكم حصن الإسلام لذا فقد وكلتكم الى إسلامكم لأني على دراية تامة بما تحمله قلوبكم من حب وإيثار للإسلام، لأنكم آمنتم بالرسالة ونصرتم

الإسلام ودافعتم عنه بأموالكم وانفسكم وآزرتم المسلمين الذين هاجروا اليكم من مكة، لذا فقد جعلكم الله أكثر قربا للرسول عندما غرس في قلوبكم الإيمان وجعلكم مؤمنين حقيقيين لستم بحاجة لاختبار إيمانكم، وكذلك ليس هناك مسوغ يدعوني الى معاملتكم كالآخرين والذين يعمل المال وتلك العطايا في أنفسهم الافاعيل لأن الإيمان الذي تمتلكونه لم يدخل قلوبهم بعد ولم تألف عقولهم تعاليمه،

لذا فقد جعلنا هذا المال وتلك العطايا واسطة وحجة ناجعة لكسبهم وضمهم الى صفوف المسلمين، أما أنتم معشر الأنصار فقد آمنتم وصدقتم لا من أجل زخارف الدنيا بل لأنكم مؤمنين حق الايمان، ثم بيّن الرسول باستطراده لباقي كلمات خطبته: –

(ألا ترضون يا معشر الانصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله الى رحالكم) وبهذا الأسلوب الخطابي الواضح جدا والمؤثر جدا لأنه يتناغم مع الواقع ومتغيراته، لذلك أعاد بفصاحته وتفرده اللغوي إنتاج فضاء أنثرولوجيا استطاع بواسطته أن يمتلك العقول والقلوب، وهذه العبقرية والذكاء والتأثير وصدق الطرح ووضوح الفكرة واختزال الكلمات وسيل العواطف الصادقة التي أعلنها

الرسول في خطبته لجميع الأنصار قد أعطت ثمارها ، فما عساهم ان يقولوا بعد كل الذي سمعوه فهل يفضلوا الشاة والبعير على امتلاك صحبة الرسول ومحبته لهم والذي اختار قبل هذا عدم مفارقتهم والعيش معهم وكما قال بعد فتح مكة وهو يخاطب الأنصار بعدما اعتقدوا انه ربما سيرحل لمكة بعد فتحها (كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت الى الله وإليكم ، والمحيا محياكم والممات مماتكم ) (3) إذا معشر الأنصار تربطهم مع الرسول صلى الله عليه واله وسلم روابط الايمان والتصديق والمحبة والمؤازرة وليس العطايا أو الاموال ، لذلك الرسول كان يعلم بخبايا تلك القلوب وما تكنه من حب صادق للرسالة ولشخصه الكريم ،

ثم يواصل الرسول خطبته وبهذه الكلمات التي تواكب مختلف الثقافات عمل على إيجاد لغة تتناغم مع الواقع بمزاوجة دلالية وتعبيرية أخذت من العمق الاجتماعي صيرورتها، لذا نراها معبأة بإنثيالات المعاني السامية لشخص الرسول ووضوح حديثه مع هذه الثلة المؤمنة التي يكن لها الاحترام والتقدير، ومع علمنا الأكيد بأن الرسول لا يجامل ولا تأخذه بالحق لومة لائم، عرفنا جيدا ما للأنصار من مكانة مرموقة

في قلبه، ثم واصل خطبته ليختمها بهذه الكلمات: –

( والذي نفسي بيده لولا الهجرة لكنت أمرؤا من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الانصار شعبا سلكت شعب الأنصار ، اللهم ارحم الانصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ) فلم يجد الأنصار أمام هذه الكلمات إلاّ البكاء حتى أخضلت لحاهم من الدموع وقالوا رضينا برسول الله قسماً وحظاً ، وبهذا الأسلوب الخطابي الرائع والصادق في إظهار ما في القلب من انشغالات لغوية وأفكار يريد الخطيب أن يوصلها للمتلقي بقلب خال من الأحقاد ودعوة صادقة وأمينة لا تعكرها شوائب المصالح او حب الأنا وما تحمله من مفارقات ، لذا نرى أن الرسول الكريم لم يبتعد قط عن هدفه الأساس والرئيسي في إيصال فكرته الى صدور وعقول مستمعيه بكل صدق وأمانة لتبقى تلك الكلمات خالدة مع السنوات والقرون ، وبهذا تمكن الرسول من سحب البساط والحجة من كل المنافقين وكذلك الساخطين والمبغضين من أن يعملوا أو يتسببوا في خلق أو إيجاد نوع من الفتنة ربما تؤدي بشكل أو بآخر الى تفريق البعض من صفوف المسلمين كأنصار أو مهاجرين ، وكذلك محاولة مليء صدور البعض من

الأنصار بالحقد على الرسول لأنه استثناهم من العطاء، لذا لم يجد هؤلاء المنافقين والناقمين وهم يواجهون حكمة الرسول وقدرته الفائقة على تجاوز مثل تلك الحالات بعزم وحلم وتأني اتسم بكل المعاني

الخالدة للقيادة الدينية والسياسية والاجتماعية، إلاّ أن يصمتوا صاغرين أمام هذا الفيض الدافق من حسن الطرح ووضوح الحجة ونقاء السريرة.

التعليقات مغلقة.