موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

من ادب البحر

من ادب البحر

حسن البحار – العراق

فاجأني ردّ فعلي في الكتابة كفعل انضباطي اتجاه نقل احداث رحلة على ظهر البحار والمحيطات وما رافقتها من مشاهد واحداث في مرافئ كانت لها ذاكرة لا ترحل..

الرحلة 1

لقد تبين بعد أوَّل إبحار لي، إن الحياة مختلفة عن كلّ ما كنت أعرفه بين أهلي وأصحابي؛ إذ بدا لي فجأة شيء من الطيبة ونقاء المشاعر، مازالا في هذا العالم أملٌ يحوم في الأجواء يحتويني بلطف، يدفعني إلى التقدم بجرأة أكثر، فعلى الرغم من مظهري المتحفظ إلا أنني أشعر بنوع من الارتياح يهزّ القلب هزّاً بدعابته المتكررة يملأ الروح رعدة وقشعريرة. في إندونيسيا كنت أتفحص الحياة أمسك بيد ريتا منتشياً اتنقل في أجواء المكان مثل النسيم خفيفاً ألقى التحايا والابتسامات والسلام، يبدو أنّ من قال البحر معلي كان صادقاً معي… وربما بدا لي هذا الإبحار أكثر جمالاً؛ ولأنني تعرفت على هذا واحببته اليكم سلسلة رحلة بحرية فيها حكاية حب من مخلوقة رائعة تتحدث الانجليزية بطريقة جميلة يضفي على جمالها الشهي سطوعاً وهي تشدد على مخارج حروف كلّماتها التي كانت تتلفظ بها بلكنتها الأسيوية…

الرحلة 2

أبحرنا عند الساعة السادسة أو أكثر بقليل لا يهم، الأهم تركت ورائي على ساحل ميناء الأم قلباً دافئاً يتوق إلى رؤية وجهي. كانت النوارس قاسية بطيرانها مهمومة تحلِّق فوق الموج يغشّيها التعب المتوارث والبريد القادم الذي أمسى مثقل المسافات صامتاً. البحر يحمل سفينتي الخائنة بإبحارها المتسارع إلى هناك يلقيها بكفٍّ كبيرة إلى الخليج العربي. الأفق الذي كان يرافقنا انشطر إلى نصفين، ذات اليمين شمس ترضع ظاهرة الحياة، وذات الشمال غلافٌ رمادي يهرس خط البرق المتوهج يرمي بالغبار وجه البحر… علمتُ إنها إيماءات بوح في حياة

يحصل فيها كلّ شيء. الصوت والصمت في نفسي يتخاصمان، الحزن والتوحّد يخالطهما السكون، الترقّب يثبتني في تكتم فاضح، أطيل المكوث على فراق حرج يفتق من أجله جراحاً وأعرف أن رحلتي ستطول والبعد عن أمي سيتعبني مرة أخرى. تدوي في أعماقي العارية صرخة خرساء تضغط الأشياء للتصبّر… على الرغم من الإثباتات التي غرزت منذ زمان في صحراء جسمي وبمسافات متقاربة على أمل الرجوع وراء سؤال: ” متى تترك البحر والإبحار؟”. من المستحيل الجواب على هذا السؤال الآن؛ لا لشيء فقط لأني عرفت من لم يعشق البحر والنساء والمغامرة لم يذق من طعم الحياة شيئاً. بدأت رحلتي هنا من على موج شط العرب من ميناء أم قصر في أقصى جنوب العراق ولا شكَّ قد أُصبت بالجنون، وقد بدأت أهذي بالكلام. الغيوم ذات الشمال التقطت من الشمس سخونة جمسي وقذفتها مثل حجارة في بطن إحدى الموجات المنتصبة. ذات اليمين كسرت قصبة بيضاء ونثرتها مثل بذور فوق الأفعال البحرية، فالحب واحد، والبحر الذي يأخذ

من الكلّ ويعطي واحد، وفوق شفاه الأمس تركتُ بقايا مني بلا عسس.

الرحلة3

اليوم لم يترك لي السفر طلب العودة… البحر عناده شجون، شَحنتهُ العواطف التي تسوق العقل، والعقل عُلّق هناك… مكوثي طال، أكتب أسراري وألقيها بكفٍّ موشحة بالبياض، أرمي قُبُلات شفاه مُتيبِّسات مثل رجم الأحجار حين تشقّ النسائم في أصواتِها توسلات، كنتُ وجهاً تحت ظلِّ ابتسامة سمراء، فوق صدر الموج الذي كنا نسير فيه إلى ميناء آخر لم تهدأ المحركات  أبداً، كانت تزأر بضجيجها المتتالي في رأسي، يدفع السفينة بسرعة أعلى نحو الأبعد، مترنحة وكأنها مخمورة، ترقص مستمتعة بالموج المنتصب في داخلي، تشعل بتموِّجها العالي شهوة الوصل في نفسي التي لم تكتمل بعد. دخلت بلا أمري في حالة بين الصحو والتيهان..  بدا رحيق الحبِّ مراً على شفتي التي كانت في اشتياق للأرض والشجر ولوجهي الضاحك. لم تكن لي الرغبة في العمل لزمت مكاني… بقيت على ظهر السفينة. الملل الذي كان

يلازمني طوال بقائي على ظهر السفينة لم يكن بتلك القوة كي يمسح آثار وجه الغربة فوق البحر وحيدا: “ترى ما تقوله عني؟”. قد أكون في رأيها ابناً ركب البحر وغاب؛ كانت الأفكار تلاحقني في كلّ مكان أشعر بالتوتر أخاف على نفسي من الاستمتاع.. أخشى فعلاً قد وقعت في مرض البحار الدائم. الحنين الى البيت.! ما الذي يحدث لي؟!! الصور التي أمامي وكأنها تلك الحقبة التي مرت من حياتي وقبل أن يحدث أيُّ شيء ما كنت لأعرف معنى الإحساس بالوقت ولا التوحّد في البعد، كنت بالكاد أغفو مع وسادة أيّامي أستيقظ كسولاً ناعس العينين، على شبّاكي تتزاحم ألوان الصباح، يسرقني الوقت وأسرقه، لا تسكنني الرهبة عند الرغبة الجامحة في الحاجة إلى القفز راكباً عقلي أتأبط خطواتي. أمشي وسط الأمنيات أتخيّل العالم معبداً تتسامى فيه الأرواح إلى ملكوت السماء على مضمار محفوف بالمخاطر البقاء فيه للأقوى، لا استوعب أهمية من حولي، تلاعبني أنامل القدر كما تلاعب الريح العاصفة أوراق الشجر، قلبي المضطرب في

خفقانه يخلو إلى نفسه منزوياً عند الجهة اليسرى، بينه وبين العزلة ألفة؛ غايته العيش بسلام لا أكثر. حتى تلك الليلة في ميناء دوماي في إندونيسيا وكأنها من عالم آخر. تحوي نجوماً أكثر مما نتخيل، وَقَعَ من بريق توهّجها في صدري أمل يتجدد باستمرار، سمح لنفسي القفر الانسياق عاطفياً عبر خيوط دَسّتْ في داخلي المعجزات، ولا أحد يعرف كيف؟ ولكن؟ بقدر ما شطرتني تلك الخيوط إلى نصفين – نصف تملكته الآهات، ونصف تؤجِّله الأقدار لوقت لا أعرف أوانه؟ – إلا أنها حَوّلَت مجرى الانتماء في الانتساب إلى ذهني نحو الأفضل عبر جُروفٍ ومنحدرات كانت تُحدِث مزيجاً من الرهبة والتحدي في عقلي الذي لم تكن له القدرة على نسيان ضياء رستوريتا تلك المخلوقة التي تحلو لها نبرة صوتي ضاحكة وأنا أصيح به مراراً وتكراراً عن قصد أختصرهُ ريتا. لن أنسى ريتا أبداً؛ امرأة من طرازٍ آخرَ أكثر مما نتصوّر، لطيفة خالصة اللطف تتوغل في القلب على مهل تَملكهُ! لا أشبع من النظر إليها، ولا التمعن في تموّجات سمار قوامها المنتصب

في ثوبها الأبيض الذي يوحي بتفسيرات عديدة حين تنشغل في زحمة الأيّام، متحررة الوجود، تتحرك بوقار مزدان، سيدة أعمال في النهار، أُمٌ حنون في المساء، وفي هدأة الليل أنثى أكثر من رائعة، ولكن الأيّام الجميلة لا تتدفق مثلما يتدفق الضياء، فما كان بمقدوري أن أفعل إلا ما أفعله الآن؟ يبدو من المناسب عند هذا الحد أن أذكر كيف تعرّفتُ على ريتا..

 

 

 

التعليقات مغلقة.