موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

عالَم من القَسْر – المحطة- وكالة ذي قار


هل يمكن أن نَعِيش في تجمُّعاتٍ بدائيَّةٍ بدلًا من الدُّوَل؟ يبدو الأمر غير متصوَّرٍ، وما ذلك إلا لأننا اعتبرنا فِكْرتي الدَّوْلة والحضارة من المسلَّمات، حتى مجتمعات ما قبل الدُّوَل اعتبرت كمقدَّمات للدُّوَل، لكن ثَمَّة وجهة نظر مُخالِفة تعتبر أن الدَّوْلة نظامٌ فُرِضَ على البَشَريَّة، وهو ما ينظِّر له عالِم الأنثروبولوجيا جيمس سكوت (James C Scott) في كتابه Against the Grain، إذ يقول إن فِكْرة الدَّوْلة قد أُطِّرت كأمرٍ طبيعيٍ وكمَطْمَح للبَشَريَّة، لكنها في الحقيقة أمر طارئ، ذلك لأنها جاءت في الحِقْبة الأخيرة من تاريخ الإنسان العاقل (Homo Sapiens) الذي اتَّبَع أشكالًا مختلفة من المَعِيشَة، مثل جماعات الصَّيْد والزراعة المتنقِّلة والرعي، ثُمَّ بزغت الجماعة المُستوطِنة فبدأت الدُّوَل في التكوُّن في صورة نقاط مُبعثرة على هامش العالَم البدائيّ، ولقد اعتمدت هذه التكوينات المُستحدَثة على القَسْر coercion لإجبار الأفراد على الانخراط في سياقاتها، فقنَّنت العِمالة الإجباريَّة والعبودية والاستعمار في إطار فِكْرة الدَّوْلة. (1)

ومن نفس المُنطلَق يرى البروفيسور روبرت وليام (Robert L Hale) في أحد مقالاته حتمية القَسْر بالنسبة للدَّوْلة وعلى الأخص قانون المَلَكيَّة الذي يعتبر المجال الأظهر لفِكْرة القَسْر، حينما يصير العُمَّال في خيارٍ بين الإذْعَان لشروط صاحب العمل وبين التضوُّر جوعًا. (2) وإذا كنت أتفق مع القول بعدم ضرورية فِكْرة الدَّوْلة لاستمرار الجنس البشريّ، وأن القَسْر –خصوصًا من طريق الآليات الاستعماريَّة والإمبرياليَّة– كان عاملًا رئيسًا لنشوء الدَّوْلة والحضارة وتطورهما، لكني أعتقد أنه على الرَّغْم من كون الدَّوْلة غير ضرورية للبَشَر، فإنها أمرٌ حتمي لاعتبارات متعلِّقة بفِكْرة التطوُّر، وإذا كان القانون والحضارة أمرين حتميين، فإن العدالة تُوجِب مُعالجة مسألة القَسْر بما يُحقِّق التوازن بين متطلَّبات الدَّوْلة من جهة وحُرِّيَّة مواطنيها ورفاهيتهم من جهةٍ أخرى.

يلعب القَسْر دورًا أساسيًّا بالنسبة للدَّوْلة سوءًا من حيث قيامها أو من حيث تطوُّرها. فالقَسْر هو الذي أجبر جماعات الصَّيَّادِين والرُعَاة على العمل في إطار الدَّوْلة كما يقول سكوت، إما باعتبارهم عبيدًا أو عِمَالة غير حُرَّة، ثُمَّ جاء الاستعمار ليدفع فِكْرة الدَّوْلة لتَصِل إلى شكلها الحالي وَفقًا للنَظَريَّة Anderson التي قدَّمها الدكتور خالد فهمي في كتابه “كل رجال الباشا”. يرى Anderson أن الاستعمار قد فَرَضَ الأُمَم المُصطنَعة على المجتمعات البدائيَّة عن طريق توحيد لُغَة المُستعمرَات بواسطة الطباعة لوأد اللُّغَات المحليَّة، واستخدمت فِكْرتا الخريطة والمَتْحَف لتأطير الأُمَم الجديدة، فعن طريق الأولى يُشكِّل حاضرهم، وبواسطة الثانية يُبروز ماضيهم. (3) ثُمَّ صاحبت فِكْرة الحضارة تطوُّر فِكْرة الدَّوْلة في إطار الزحف الاستعماريّ كمُبرِّرٍ له وَفقًا لطرح سانديا باهوجا Dr.) Sundhya Pahuja) في مقالها Laws of Encounter بأن الحداثة قد قدمت في المستعمرات كنِدٍّ لتقاليدها، وباستخدام معيار التنمية فإن الحداثة قد رجَّحت التقاليد من حيث تقدُّمها وقانونيتها، بينما تؤكِّد أن المواجهة بين القانون الدَّوْليّ وغيره من الأنظمة هي منافسة بين سُلْطات أو أنظمة مختلفة رافضة الافتراض بأن القانون يسبق في وجوده العالَم. (4) وهذا ما يُدَعِّم وجهة النظر القائلة: إن الحضارة والدَّوْلة لم يكونا يومًا من طموحات البشريَّة، ولكن الأنظمة القَسْريَّة بأدواتها الجبريَّة هي التي فرضتهما على البَشَر.

ورَغْم ما تقدَّم، فإن الحضارة والدَّوْلة وإن لم يكونا جزءًا من الطبيعة الإنسانيَّة، فهما تُشكِّلان طَوْرَين حَتميَّين في تاريخ الإنسانيَّة. فتراكُم القوة في جماعةٍ ما من شأنه أن يمدها بالقُدرة على طلب السُّلْطة اعتمادًا على قوتها التي تتجلَّى في مُمارساتها القَسْريَّة ضد من يحاول تحدي قوتها، وذلك من مُنطلق وجهة نظر داروينيَّة. فكما يرى الإمام ابن خلدون في مقدَّمته، تبدأ المجتمعات بطَوْر البَدَاوَة، ومع ظهور العَصَبيَّة يبدأ طَوْر الرِيَاسَة داخل القبيلة، ونتيجة لذلك يصبح المَلِك مطلبًا لهذه العَصَبيَّة ذات السُّلْطة الرياسة، ومن ثَمَّ تتشكَّل الدَّوْلة، ثُمَّ تستقر الدَّوْلة من خلال آليَّات القَمْع التي تستهدف حماية نظام الحُكْم ولو على حساب التخلُّص من الأنصار السابقين الذين قامت بهم الدَّوْلة، ومن شأن ذلك الاستقرار تمهيد السبيل لتطوُّر الصناعات والعلوم والأسواق ودواعي الرفاهية، وهو ما يُساهِم في تطوُّر الحضارة، وتتقاطع نَظَريَّة ابن خلدون مع أطروحة سكوت في تَسْليط الضوء على الدور الذي يؤديه القَسْر في تطوُّر الدَّوْلة، لكن ابن خلدون يؤكِّد حتميته بسبب مسألة العَصَبيَّة داخل القبيلة التي لا يُشْبعها سوي نَيْل السُّلْطة.

وإذا كانت الدَّوْلة والحضارة وما تقتضيان به من قَسْر عَبْر آلياتهما –خاصة القانون وَفقًا لرؤية وليام– أنظمة لا بُدّ منها، فإنه ليس أمام البَشَر سوى التعامل مع هذه الأنظمة على نحوٍ يُخفِّف من وقعها، فإلغاء هذه الأنظمة غير متصوَّرٍ نظرًا للقوة التي تُمارِس بها القَسْر تجاه المواطنين، بالإضافة إلى كونها من مظاهر المجتمعات الحديثة، ومن ثَمَّ فإن الحَلّ العمليّ يكون في تطوير أنظمة مضادة تُعْلِي من الجانب الإنسانيّ في مواجهة تلك الآلياَّت القَسْريَّة، فمثلًا وَفقًا لرؤيَّة سكوت فيتش (Dr. Scott Veitch) يمكن للمؤسَّسات التي تحُاكي المؤسَّسات القانونيَّة كلجان تقصّي الحقائق أن تملأ الفَجَوَات التي تُخلِّفها الآليَّات القانونيَّة الرَّسْميَّة عندما تكون الأخيرة مسئولة. (5) (كأن تكون المؤسَّسات الرَّسْميَّة ضالعة في الوقائع محل البحث)، كذلك يُمَكِّن نظام التَّحكيم الخصوم من الاتفاق على طريق لتسوية مُنَازعَاتهم من طريق اختيار القُضاة والقواعد المُطبَّقة بهدف تفادي الأنظمة القضائية القَسْريَّة وإجراءاتها المُعقَّدة، فإذا كانت هذه الأنظمة غير كافية في حَدّ ذاتها لحماية الأفراد من المُمارسات القَسْريَّة الهائلة والمتعمقة في الوقت نفسه، فإنها تُمهِّد الطريق لآليَّاتٍ أكثر فاعلية، لا سيما أن القانون نفسه قد نشأ كنتاجٍ للقَسْر قبل أن يَتَعَاظم شأنه.
خاتمة:

إنَّ المجتمعات البدائية والدُّوَل نِدَّان، لكن القَسْر قد مَنَحَ للثانية الصَّدَارة وجعلها حتمية في الوقت ذاته، ويُعَد القانون إحدى الآليَّات القَسْريَّة التي ساهمت في هيكلة الدَّوْلة وفِكَرة الحضارة وفرضهما على الإنسانيَّة، ومع ذلك، فعلى الرَّغْم من عدم إمكان تجنُّب الأُطُر القَسْريَّة الرَّسميَّة تظل الفرصة سانحة لتطوّير أنظمة مُعاكِسة من شأنها تخفيف آثار ذلك القَسْر والتوطئة لأنظمةٍ أقدر على مواجهة ذلك القَسْر الرَّسميّ.

هوامش:

  • 2 – Robert L. Hale, Coercion and Distribution in a Supposedly Non-Coercive State, 38 (Political Science Quarterly 470-494 1923
    3 – خالد فهمي _ كل رجال الباشا – ترجمة شريف يونس – دار الشروق – الطبعة الخامسة – ٢٠١٥ – ص ٦٧ – ٧٠.
  • 4 – Sundhya Pahuja, Laws of encounter: a jurisdictional account of international law, 1 London Review of International Law 63 -98. 2013
  • 5 – Scott Veitch, Law and irresponsibility 9, 10

ترجمة لورقةٍ بحثيَّة حرَّرتها في دراستي
لفَلْسَفة القانون بالجامعة الأميركيَّة بالقاهرة
عُنْوَانها الأصلي A Frame of Coercion)




هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن سياسة المحطة.



(function () {

function appendFbScript() {
var js, id = ‘facebook-jssdk’,
fjs = document.getElementsByTagName(‘script’)[0];

if (document.getElementById(id)) return;
js = document.createElement(‘script’);
js.id = id;
js.src = “//connect.facebook.net/ar_AR/sdk.js#xfbml=1&appId=1931834240421227&version=v2.0”;
fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs);

window.fbAsyncInit = function () {
FB.init({
appId: ‘1931834240421227’,
xfbml: true,
version: ‘v2.0’
});
FB.Event.subscribe(‘comment.create’, function (comment_data) {
console.log(comment_data);
update_comments_count();
});
FB.Event.subscribe(‘comment.remove’, function (comment_data) {
update_comments_count();
});

function update_comments_count(comment_data, comment_action) {
jQuery.ajax({
type: ‘GET’,
dataType: ‘json’,
url: ‘https://elmahatta.com/wp-admin/admin-ajax.php’,
data: {
action: ‘clear_better_facebook_comments’,
post_id: ‘66767’
},
success: function (data) {
// todo sync comments count here! data have the counts
},
error: function (i, b) {
// todo
}
}
)
};
};

jQuery(document).on(“ajaxified-comments-loaded”,appendFbScript);
}

appendFbScript();

})();



المصدر

التعليقات مغلقة.