موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

التحليل النفسي في فرانكفورت: أدورنو وماركيوز أنموذجًا- وكالة ذي قار


“إنَّنا نرى أنَّه إذا كانت تطبيقات التحليل النفسي شديدةَ التنوُّع؛ فالمبادئ لا تتغيَّر. كُلُّ شيءٍ يَنجم في النهاية عن الليبيدو.”

– روجيّه باستيد، السوسيولوجيا والتحليل النفسي 

إنَّ الدارس لمدرسة فرانكفورت النقديَّة والمتتبِّع لمراحل تطوُّرها عبر أجيالها المختلفة؛ سيكتشف درجة التعقيد التي تكتنف هذه المدرسة بفعل الحضور القويِّ لكثيرٍ من الأطياف الفلسفيَّة، التي مارست تأثيرها وإن كان بدرجاتٍ متفاوتةٍ على روَّادها، وتأثَّرت بالفلسفة الهيغليَّة والماركسيَّة، وهذا التأثير لم يأخذ صورة التقليد والتبنِّي فقط، بل إنَّ فلاسفة المدرسة تناولوا مختلف المسائل الفلسفية التي عالجتها الفلسفات السابقة بالدراسة التحليليَّة النقديَّة. ولا يمكن حصر المنابع الفلسفيَّة لمفكِّري المدرسة في الفلسفات السالف ذكرها، بل اتَّسعت مشاربها أكثر بكثيرٍ لترتبط من الناحية السيكولوجيَّة بمدرسة التحليل النفسي من خلال التأثُّر بأفكار رائدها «سيغموند فروید» والاستفادة من التحليل النفسي كمنهجٍ لتفسير كثيرٍ من المسائل التي اهتمَّت المدرسة بمعالجته، إلى درجة أنَّ البعض من المفكرين اعتقد بأنَّه لا يمكن التفكير في أيِّ حركةٍ فلسفيَّة أو تيَّارٍ فكريٍّ في القرن العشرين خارج الأثر الثلاثيِّ لماركس ونيتشه وفرويد، وربَّما تكون النظريَّة النقديَّة لمدرسة فرانكفورت قد جمعت هذه الأطياف الثلاثة في حزمةٍ واحدة.

ففلاسفة النظرية النقدية بعد معاينتهم لانحطاط القيم الفرديَّة داخل المجتمع الصناعيِّ المتقدم، حاولوا إعمال العقل لإعادة الاعتبار للفرد ولتنشيط الفكر النقديّ، وانطلاقًا من هذا الاهتمام عملوا على إعادة قراءة النصِّ الفرويديِّ على ضوء تحوُّلات المجتمع الصناعيِّ متسائلين عن دلالات الرغبة والتصعيد اللاشعوريِّ وموقع الجنس في آليات الإغراء الحديثة وعلاقتها بالعمليَّة الإنتاجية وعن المعاني الجديدة التي يتَّخذها الحب.

من هذا يتَّضح أنَّ روَّاد مدرسة فرانكفورت النقديَّة جعلوا من التحليل النفسي منهجًا ضروريًّا لتحليل المشكلات الفرديَّة التي برزت في المجتمعات الرأسمالية؛ بقصد تشخيصها ومن ثمَّ إيجاد الحلول المناسبة لها. ويعود اهتمام مدرسة فرانكفورت بالتحليل النفسيِّ إلى مقالةٍ مبكرة كتبها «فيلهلم رایخ» بعنوان «الماديَّة الجدليَّة والتحليل النفسيّ» سنة ١٩٢٧، حيث أنَّه نبَّه إلى أنَّ التحليل النفسي يختلف جذريًّا عن علم الاجتماع أو علم النفس الاجتماعيّ، وأنَّه يحمل تصوُّرًا ماديًّا عن الإنسان بوصفهِ فردًا، أي أنَّه كتلةٌ غريزيَّةٌ من النزوات المتحرِّكة في جدل تحوُّلاتٍ وصیروراتٍ لامتناهيةٍ للكينونة، ولفرديَّة الإنسان الذي يبدو أنَّه اشتقَّ إنسانيَّته من نشأة الفرديَّة، وانفصل عن الطبيعة بفعل فرديَّته، ومن هنا أصبح الاغتراب البعد الأساس في الكائن الفرد.

ثيودور أدورنو والمَنهل الفرويديّ

التحليل النفسي في فرانكفورت: أدورنو وماركيوز أنموذجًا
ثيودور أدورنو

“إنَّ المجموعات البشريَّة تظهر مقاومةً غريزيَّةً للتغيير وتوقًا إلى السلطة.”

لعب الفكر الفرويديُّ دورًا مركزيًّا في أعمال هربرت ماركوز وماكس هوركهايمر ومؤخَّرًا يورغن هابرماس. لكن لم يتأثَّر أحدٌ منهم بنتاج فرويد أكثر من ثيودور أدورنو. كان أدورنو فرويديًّا أرثوذكسيًّا. أيَّد نظريَّة الغريزة، على النقيض من المحاولة “التحريفيَّة” لإريك فروم وكارين هورني، اللذان وصما فرويد بالحتميَّة البيولوجيَّة. ولكن أيضًا اختلف في اعتقاده أنَّ فرويد يميل إلى إسقاط انهيار الواقع الخارجيِّ في العالم النفسيّ. حتَّى هنا، على أيِّ حال، ظلَّ أدورنو دائمًا مؤيِّدًا ومدافعًا عن العقيدة الفرويديَّة الأرثوذكسيَّة  -التحليل النفسي في شكله الصارم- وهاجم إريك فروم ولاحقًا كارين بسبب تحريفهم, وأبدى تحفُّظاتٍ حول اختزاله إلى إجراءٍ علاجيّ, على الرغم من أنَّه اعتبر تركة فرويد النفسية قد أخطأت حين قلَّلت من أهميَّة العوامل الاجتماعيَّة، إلَّا أنَّه اعتبرها صائبةً في جزءٍ منها وهو أنَّه في ظلِّ الرأسماليَّة المتقدِّمة، يُقلَّص البشر إلى أحاديَّاتٍ منعزلة. بمعنى أخر، كان فرويد محقًّا حتَّى عندما كان مخطئًا.

على الرغم من أنَّ الماركسيَّة لعبت أيضًا دورًا حاسمًا في تطوير فكر أدورنو، إلَّا أنَّه يمكن القول بأنَّ السمات الرئيسة لنسخته من النظريَّة النقديَّة كانت فرويديَّة. لم يغِب عن أدورنو حقيقة أنَّ كلَّ كائنٍ هو نتاج التاريخ، وأنَّ الوضعيَّة تلعب دورًا نشطًا في اكتساب المعرفة. من الواضح أنَّ هذه الفكرة تتلاءم جيِّدًا مع فكر التحليل النفسيّ، الذي، بينما يرث بعض المبادئ التجريبيَّة والماديَّة من القرن التاسع عشر، يُعتبر تأويليًّا في تطبيقه السريريِّ ويلتزم بمفهومٍ غير وضعيِّ للحقيقة.

المطلوب من المحلِّل أن يتدخَّل بنشاطٍ ويدرك أنَّ الموضوعيَّة لا يمكن تحقيقها إلا ذاتويًّا. وبالمثل، في منهجيَّة النظريَّة النقديَّة، يُلاحَظ الموضوع من وجهة نظرٍ داخليَّةٍ جوهريَّة، وليس من منظورٍ متسامٍ مثل الذي يتبنَّاه العلم الاجتماعيُّ المعرفيّ. هذه هي بالضبط وجهة نظر التحليل النفسي، الذي يهدف إلى جعل المحدِّدات الاجتماعيَّة للأمراض الفرديَّة واعيةً من خلال البحث عن تلك المحدِّدات ليس في العالم الخارجيِّ ولكن من خلال الأثر الذي تتركه على الحياة النفسيَّة والعاطفيَّة للمريض.

أحد المبادئ الأساسيَّة للنظريَّة النقديَّة هو المبدأ القائل بأنَّه في ظلِّ الظروف الاجتماعيَّة الحالية، لا يمكن لأيِّ توليفٍ بين الذات والموضوع أن يوحِّد تطلُّعات الفرد إلى السعادة وضرورات المجتمع. يتوافق مبدأ النظريَّة النقديَّة هذا بشكلٍ وثيقٍ مع فكرة فرويد عن الصراع الذي لا يمكن التغلُّب عليه بين الرغبة والكمال، بين متطلَّبات الغريزة ومتطلَّبات الحضارة. تظهر أوجه التشابه السابقة أنَّ كُلًّا من نقد أدورنو للثقافة ونظريَّته عن الشخصيَّة مدينان بالكثير للفكر الفرويديّ.

استند نقد أدورنو إلى نظريَّتين من نظريَّات التحليل النفسي: الهُويَّة والإسقاط. من خلال محاولة تحديد الهويَّة؛ يستوعب الفرد الأب، وبدائله الرمزيَّة، وفي التحليل النهائيّ؛ يستوعب المجتمع ككلّ.

في الإسقاط؛ يسقط الفرد على العالم الخارجي العواطف التي تكتنفه والأفكار. لا تعتبر أيٌّ من هذه الآليات مرضيةً في جوهرها, لأنَّ تعريف الهويَّة أمرٌ ضروريٌّ للاندماج الاجتماعيِّ للفرد؛ والإسقاط ضروريٌّ لاكتساب الفرد المعرفة، والتي تنشأ من استيعاب بيانات المعنى، وتحليلها من خلال التفكير الذاتيّ، وتحويلها إلى أفكارٍ حول الواقع الخارجيّ.

كلُّ هذا يتغيَّر في الحالة الحالية للرأسماليَّة أو بشكلٍ عامٍّ في المجتمع الصناعيّ. بينما في المراحل المبكِّرة من التطوُّر الاجتماعيّ؛ أتاح تحديد الهويَّة للأفراد هامشًا من الاستقلاليَّة, حيث تستوعب الذات فيه نموذجًا اجتماعيًّا يخلق قدرًا أكبر من الاستقلاليَّة، وتُحَقَّق التنشئة الاجتماعية من خلال الأسرة التي يمكن أن تنتج أفرادًا أحرارًا, ولكن الآن يُحَقَّق ذلك بشكلٍ مباشرٍ من خلال النظام الاجتماعيّ، من خلال المجتمع الصناعيّ، بهدف إنتاج توافقٍ اجتماعيٍّ تُمحَى فيه الفرديّّة. وبالمثل، لم يعد الإسقاط أداةً لإنتاج معرفةٍ مفيدةٍ بالواقع، لأنَّ نفس المطالب الخاصَّة بالامتثال التي تُخضِع الفرد مباشرةً للمجموعة جعلت عمليَّة التفكير الداخليِّ التي تُعالَج من خلالها الحقائق حول العالم غير ضروريَّة. نتيجةً لذلك، لا يُظهِر الإنسان الحديث سوى الاستياء والغرائز المدمِّرة والفراغ الداخليّ، مما يحوِّل العالم إلى نظامٍ اجتماعيٍّ مصابٍ بجنون العظمة مليءٍ بالمؤسَّسات العدائيَّة.

حقَّق أدورنو نجاحًا آخر بمساعدة فرويد في نظريَّة الشخصيَّة، واضعًا أفكاره في عملٍ ألَّفه مع العديد من الزملاء, وهو الشخصية السلطويَّة (١٩٥٠) ، كانت دراسةً تجريبيَّةً حاولت شرح العلاقة بين بنية الشخصيَّة ووجهات النظر المتعلِّقة بالمشاكل الاجتماعيَّة والسياسيَّة. كانت الفرضيَّة أنَّ الأشخاص الذين لديهم هيكل شخصيَّةٍ استبداديّ، كما يُقاس باستخدام متغيِّرات التحليل النفسي، هم أكثر عرضةً للاعتراف بأفكارٍ سياسيَّةٍ رجعيَّة، في حين أنَّ الأشخاص غير الاستبداديين هم أكثر عرضةً للاحتفاظ بآراءٍ ليبرالية. وتحت دهشة المؤلِّفين الكبيرة, لم تتحقَّق تلك العلاقة المتوقَّعة، لأن العديد من الأفراد الاستبداديين كانوا ليبراليين والعديد من الأفراد غير الاستبداديين كانوا رجعيين.

اقترح أدورنو تفسيرين محتملين لهذه الحالة التي تتسم بالتناقض. أحدها أنَّ البيئة الاجتماعية  “البيئة الثقافيَّة العامَّة” تشكِّل كلَّ فردٍ فيها، بشكلٍ مستقلٍّ عن هياكل الشخصيَّة الفرديَّة، ممَّا يتطلَّب من الجميع اعتناق قيم النظام القائم.

كان تفسير أدورنو الآخر، وفق منظور التحليل النفسيِّ الأرثوذكسيّ، أن الأفراد الليبراليين أو المستبدِّين المحافظين يتماهون بشكلٍ غير كاملٍ مع آبائهم، ونتيجةً لذلك يكون سلوكهم خاضعًا ولكنّّه متمرّدٌ في آنٍ واحد، ومطيعًا للسلطة ومع ذلك عدائيّ. يُترك المرء إمَّا مع الليبراليين الزائفين، الذين تُنكَر آرائهم التقدميَّة من خلال الميول الهدَّامة الراديكاليَّة، أو مع المحافظين غير المؤمنين، الذين هم في جوهرهم فاشيُّون وليسوا مؤيِّدين حقيقيين للوضع الراهن. والعكس صحيحٌ بالنسبة للأفراد غير السلطويين. في هؤلاء الأفراد؛ يؤدِّي الصراع الأوديبيُّ إلى موقفٍ مُلائمٍ تجاه السلطة. هؤلاء الأفراد ليبراليُّون في التطلُّع إلى تغييرٍ حقيقيّ، لكنَّهم محافظون في الرغبة في الدفاع عمَّا هو أفضل في التقاليد.

ربط أدورنو كما هو واضحٌ مكوِّنات نظريَّته النقديَّة باستخدام أدواتٍ مفاهيميَّةٍ مستعارةٍ من فرويد. قد تبدو مثل هذه التحليلات قد عفا عليها الزمن من وجهة نظر الفكر التحليليِّ المعاصر، لكنَّها تُظهِر الخصوبة المثيرة للدهشة والمستمرَّة للتحليل النفسيِّ من أجل فهمٍ أفضل للمجتمع الحديث وما بعد الحداثي.

هربرت ماركيوز وأُسس التلاعب الليبيديّ

التحليل النفسي في فرانكفورت: أدورنو وماركيوز أنموذجًاالتحليل النفسي في فرانكفورت: أدورنو وماركيوز أنموذجًا
هربرت ماركيوز

“إنَّ مفهوم الإنسان المشتقّ من النظرية الفرويديَّة؛ هو فعل الاتهام الأقصى الذي لا يمكن دحضه ضدَّ الحضارة الغربيَّة، وفي الوقت ذاته هو أفضل دفاعٍ لصالحها لا يمكن ردُّه.”

– هربرت مركيوز، أيروس والحضارة.

كان الهدف الأوليُّ وفقًا لماكس هوركهايمر، المتأثِّر الأوَّل بالتحليل الفرويديِّ ومدير مركز البحوث الاجتماعيَّة آنذاك، من توظيف نظريَّة التحليل النفسي هو فهم نفسيَّة الطبقة العاملة. وكذلك فهم سبب مقاومة أولئك الذين سيستفيدون أكثر من ثورة التغيير الاجتماعيِّ لها. ماركوز لم ينخرط في التحليل النفسيِّ حتَّى وقتٍ لاحق. طوَّر ماركوز نهجًا فريدًا خاصًّا به لتفسير نظريَّة التحليل النفسي، في حين أنَّ مؤلَّفه “إيروس والحضارة” عملٌ مليءٌ بلغة التحليل النفسيّ، فهو ماركسيٌّ كما هو فرويديّ. لم يذكر اسم ماركس بين نصوصه، ونادرًا ما تُقدَّم فيه المفاهيم الماركسية. ومع ذلك، فإنَّ المصنَّفات الفرويديَّة تميل نحو رؤى ماركسيَّة في التحليل للمجتمعات الصناعيَّة المتقدِّمة.

على الرغم من أنَّ ماركيوز كان قد قرأ فرويد في عشرينيَّات وثلاثينيَّات القرن الماضي، إلَّا أنَّ مشاركته الجادَّة لم تبدأ حتَّى الخمسينيَّات. دُعِيَ ماركوز لإلقاء سلسلةٍ من المحاضرات في عام ١٩٥٠-١٩٥١ من قبل مدرسة واشنطن للطبِّ النفسيّ، وكانت نتيجة هذه المشاركة أحد أشهر كتب ماركيوز، إيروس والحضارة: تحقيق فلسفي في فرويد. كان كتاب ماركيوز هو ردٌّ على تشاؤم حضارة فرويد واستياءها. يرسم كتاب فرويد صورةً قاتمةً لتطوُّر الحضارة؛ فهي قمعيَّةٌ بالضرورة وفقًا للنظريَّة الفرويديَّة، كونها لا تكون ممكنةً إلَّا في كبت الغرائز الجنسيَّة بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، وفي تحويل مبدأ اللذة إلى مبدأ الواقع (الأنا الأعلى)، وعليه يأتي اعتماد ماركيوز على نظريَّة فرويد حتَّى يظفر بهذه النتيجة كنقدٍ جذريٍّ لبنية الحضارة وكلِّ مقولات الحداثة الطوباويَّة، بكلمةٍ كثيفة: شرط الحضارة التضحية بالليبيدو. وفقًا لماركيوز، فشل فرويد في تطوير الإمكانيَّة التحرريَّة لنظريَّته الخاصَّة.

مهمَّة ماركوز ذات شقين: أوَّلًا، يجب أن يُظهر أنَّ الغرائز أو الدوافع البشريَّة ليست فقط بيولوجيَّة وثابتة، ولكنَّها أيضًا اجتماعيَّةٌ وتاريخيَّةٌ ومرنة. وثانيًا، يجب أن يُظهر أنَّ المجتمع القمعيَّ ينتج أيضًا إمكانيَّةً مضادَّةً للقمع.

تشير إمكانيَّة كبت الغرائز إلى أنَّ المجتمع وشكله التنظيميَّ يلعبان دورًا في تشكيل الغرائز. إذا كان هذا هو الحال، فلا يمكن إصلاح الغرائز. ولكن مع تغيُّر المجتمع وآليات القمع التي يستخدمها تتغيَّر الغرائز. يشير ماركيوز إلى أنَّ تقلُّبات الغرائز هي تقلُّبات الجهاز العقليِّ في الحضارة، يصبح فيه الدافع الحيوانيُّ غريزةً بشريَّةً تحت تأثير الواقع الخارجيّ.

في هذا التحوُّل للدوافع الحيوانيَّة إلى غرائز بشريَّة، هناك تحوُّلٌ في مبدأ اللذة إلى مبدأ الواقع. في كتابه “الحضارة وسخطها” زعم فرويد أنَّ مبدأ اللذة هو الذي حدَّد الغرض من الحياة. ومع ذلك، فإنَّ العالم الخارجيَّ لا يتوافق مع إملاءات مبدأ اللذة بل هو مُعادٍ لها، ومن ثمَّ فإنَّ مبدأ اللذة يرتدّ، ويتحوَّل إلى الداخل، ويجري قمعه.

بالنسبة لماركيوز، إنَّ التحرُّر يعني تحرير مبدأ اللذة. ومع ذلك، فهو يدرك أنَّه إذا كان على البشر أن يتعايشوا؛ فإنَّ درجةً معيَّنةً من الكبت ضروريَّة. بمعنى أنَّه إذا تصرَّف المرء ببساطةٍ وفقًا لمتطلَّبات مبدأ اللذة، فسيؤدِّي ذلك إلى التعدِّي على حريَّة الآخرين. ومن ثمّ، يجب أن يكون هناك حدٌّ متبادلٌ ومحدودٌ من الحريَّة إذا أردنا التعايش. فيما يتعلق بهذه المشكلة، جاء ماركيوز بواحدٍ من أكثر تعديلاته إبداعًا في نظريَّة فرويد.

يقدم ماركوز مصطلحين جديدين للتمييز بين التغيُّرات البيولوجيَّة للغرائز والتغيُّرات الاجتماعية؛ أوَّلهما الكبت الأساسيُّ الذي يشير إلى ذلك النوع من الكبت الذي يتضمَّن تعديل الغرائز الضروريَّ لإدامة الجنس البشريِّ في الحضارة. في هذا المستوى؛ لا يُفسح المجال للهيمنة أو للاضطهاد القهريّ. يتَّفق ماركوز مع فرويد على أنَّ تاريخ الإنسان، هو تاريخ قمعه. ذلك أنَّ الحضارة لا تفرض أشكال القسر على وجوده الاجتماعيِّ فحسب، ولكن على وجوده البيولوجيِّ أيضًا؛ فهي لا تحدُّ من بعض أجزائه في الوجود الإنسانيِّ فقط، ولكنَّها تحدُّ من بنيته الغريزيَّة ذاتها، ومع ذلك فإنَّ مثل هذا القسر هو وحده شرط التقدُّم الأوليّ.

والثاني هو الكبت الفائض الذي يشير إلى “القيود التي تفرضها الهيمنة الاجتماعيَّة”. الغرض منه هو تشكيل الغرائز وفقًا “لمبدأ الأداء” وهو الشكل السائد لمبدأ الواقع. في هذه الفكرة الخاصَّة بمبدأ الأداء يلتقي ماركس وفرويد.

” إنَّ الأساس الذي يرتكَّز عليه المجتمع الإنسانيُّ هو في النهاية من طبيعة اقتصاديَّة؛ ذلك أنَّ المجتمع أمام عجزه عن تقديم وسائل العيش لأعضائه دون عمل، يجد نفسه ملزمًا بالحدِّ من عدد أعضائه وتحويل طاقتهم من النشاط الجنسيِّ إلى العمل. ونحن هنا أمام الحاجة الحيويَّة الأبديَّة التي ولدت مع الإنسان ومازالت مستمرَّة حتَّى أيَّامنا هذه.”

سيجموند فرويد

ماركيوز وكذلك رايش اعتبروا أنَّ كبت الغرائز –كما تصفه نظريَّة فرويد– يقوم بتغريب البشر عن حالتهم الطبيعيَّة، وقد يصير الكبت مبالغًا فيه ويجعل من الناس مرضى، وهذا المرض يسمى عصابًا علينا جميعًا أن نعانيه، ونسمِّي الجنس البشريَّ الحيوان العصابيَّ کما يمزح تيري إيجلتون. والعصاب مرتبطٌ بما هو إبداعيٌّ في الجنس البشري، فالبشر يتسامون بالرغبات التي لا يستطيعون تحقيقها، أي يوجِّهونها نحو غاياتٍ يضفي عليها مجتمعهم قيمةً أكبر، وبفضل هذا التسامي قامت الحضارة بتحويل الغرائز والتحكُّم فيها لصالح أهدافٍ أعلى؛ وبذلك جرى خلق التاريخ الثقافي. وقد قام ماركيوز تلك الفترة بإضفاء مرونةٍ على تدليل فرويد أنَّ الكبت الجنسيَّ ضروريٌّ لكلِّ الحياة الاجتماعيَّة المنظَّمة؛ فالكبت الجنسيُّ تغيُّرٌ من حيث الكيف والكمِّ حسب نوعيَّة المجتمعات.

حاول مارکيوز حلَّ النزاع الذي بدا له ظاهريًّا بين المنهجين الفرويديِّ والماركسيِّ بالإشارة إلى أنَّ نظريَّة فرويد في الغريزة وفي الدوافع تحتوي على نظريَّة محتجبة في المجتمع توازي نظريَّة ماركس. فمارکیوز في إيروس والحضارة قدَّم الخطوط العامَّة لجدل الحضارة يصف التاريخ بلغة التناحر بين إيروس وثاناتوس (غريزة الجنس والعدوان عند فرويد)، ومثل كتابات رایش المبكِّرة فإنَّ ذلك التدليل يقدِّم إمكانية تحرير “ثوريَّة” في المستقبل؛ يتحقَّق بانتصار إيروس على ثاناتوس حين ينهي السيطرة السياسيَّة والاقتصاديَّة على الاغتراب الجنسي. وبالإضافة إلى ذلك استُخدِمَت مفاهيم التحليل النفسيِّ لفهم الأيديولوجيَّة في المجتمع الرأسماليِّ الحديث، وتفسير لمَ تلتزم أقسام واسعة من السكَّان بمعتقدات سياسيَّة هي من المنظور الماركسيِّ معاديةٌ لمصالحهم الاقتصاديَّة.

لقد تبنَّى ماركيوز ثنائيَّة فرويد الغريزيَّة حتَّى يتسنَّى له التدليل على أنَّ مستقبل البشريَّة يعتمد على قدرة الإنسان على عكس الاتجاه الكابت في جوهره للحضارة الحديثة. لقد رأى في الحضارة صراعًا ديالكتيكيًّا بين قوى الحبِّ والموت، حيث لا يمكن أن تتأكَّد هزيمة ثاناتوس إلَّا من خلال تحرير إيروس. لقد تبنَّى مارکیوز المفهوم الهيدروليكيَّ أو الاقتصاديَّ لفرويد عن الطاقة النفسيَّة؛ لكي يتسنَّى له القول بأنَّ ثمة تفاعلًا كميًّا بين الطاقات الليبيديَّة والتدميريَّة في ارتقاء الحضارة. فالطاقة التدميريَّة لا يمكن أن تعلن عن نفسها إلَّا في مجال يتيح لها خفض الطاقة الليبيديَّة. فحتَّى يتسنَّى لطاقة التدمير أن تنمحي أو تحجب؛ كان من الضروريِّ ألَّا يضعف هذا الليبيدو أو لا ينصرف إلى أشكال التسامي المتنوِّعة؛ مثل العمل. وفقط عندما يظلُّ الليبيدو قويًّا دون تسام –وذلك عندما تنطلق الحياة الجنسيَّة انطلاقًا حرًّا، بكلا المفهومين: الكميِّ الخاصِّ بحياة جنسيَّة أكثر كثافة، والكيفيِّ الخاصِّ بحياة جنسيَّة متعدِّدة الأشكال وأكثر تنوُّعًا- يمكن لنزعة التدمير أن تنحسر عند حدٍّ أدنى. وقد أطلق ماركيوز على الاقتصاد اللبيبديّ “ديالكتيك الحضارة” Dialistic of civilizetion وأصبح شغله الشاغل في «إيروس والحضارة» أن يكشف أنَّه في ظلِّ هذه الحضارة، تحت رعاية مبدأ الآداء، كان إيروس في واقع الأمر يختنق، وكانت- أي الحضارة- بالتالي عاقدة العزم على تدمير نفسها.

ما يعنيه ماركيوز بمبدأ الأداء هو ما يجب أن يكون أداء أعضاء المجتمع وفقًا لما تمليه عليهم وظيفتهم المحدَّدة مسبقًا، على حد تعبيره: “إنَّ زمن العمل الذي يمثِّل القسم الاعظم من حياة الفرد هو زمنٌ مرهق؛ إذ أنَّ العمل الانسلابيَّ معناه غياب الارتواء ونفي مبدأ اللذة”، حيث يجري التلاعب بالعامل بطريقةٍ يبدو فيها أنَّ هذه القيود تعمل كقوانين موضوعيَّة خارجيَّة وعقلانيَّة يتمُّ استيعابها بعد ذلك من قبل الفرد, أي يجب أن تتوافق رغبات الفرد مع رغبات النظام، على حد ِّتعبير ماركوز: إنَّه يرغب في ما يفترض أن يرغب فيه.

إنّّ مصطلحات ماركيوز تكشف بجلاءٍ عن أنَّ مصطلح فائض الكبت كان الغرض منه مطابقته بمصطلح فائض القيمة لدى ماركس –أي المعيار الكميِّ للاستغلال البشريِّ تحت وطأة الرأسمالية-.

وفي حين أن سلَّم ماركيوز بأنَّ فرويد كان على صوابٍ في الكشف عن حدٍّ أدنى معيَّنٍ من الكبت كضرورةٍ ملازمةٍ للحضارة، راح ماركيوز يدافع بأنَّ قدرا كبيرًا من الكبت الجنسيِّ كان ضرورةً استلزمها الشكلُّ التاريخيُّ المعيَّن للحضارة. لقد أصرَّ مارکيوز أنَّ النصيب الأكبر من الكبت الجنسيِّ في الحضارة الحديثة كان يمثِّل في حقيقة الأمر فائض كبت، كبتٌ يعمل في خدمة السيطرة. وتتمثَّل الأهميَّة الحاسمة عند تمييز ماركيوز بين الكبت الأساسيِّ وفائض الكبت في كونه طريقًا للخروج على الأقل على المستوى النظريّ، من معادلة فرويد التي تطابق بين الحضارة والكبت. فالمجتمع الحديث نظريًّا يمكنه أن يتخلَّص من طابعه الكبتيِّ دون الارتداد في الوقت نفسه إلى البربريَّة والفوضى؛ دون تفكيك الرابطة الليبيديَّة وهي الملاط الذي يبقي على تماسك المجتمع.

وقد اجتاز مارکیوز هذه الأرضيَّة النظريَّة نفسها، من خلال وجهة نظر كيفيَّة، بتمييزه بين مبدأ الواقع ومبدأ الأداء. إنَّ تمييز فرويد بين مبدأيِّ التوظيف العقليّ -مبدأ اللذة ومبدأ الواقع- يناظر إلى حدٍّ ما الفارق بين السلوك غير المكبوت من ناحية والسلوك المكبوت؛ المتحضِّر من ناحية أخرى. ويترتَّب على ذلك أنَّ مبدأ الواقع هو العنوان الذي انبثقت منه الحضارة؛ فقد سلَّم مارکیوز بصحة تمييز فرويد، بيد أنَّه دلَّل على أنَّه في العصر الحديث، وتحت وطأة السيطرة الرأسماليَّة، اتَّخذ مبدأ الواقع شكلًا معيَّنًا تطلَّب قدرًا أكبر من الكبت، أو على وجه الدقة نمطًا أكثر تنوُّعًا ممَّا كان ضروريًّا لضمان استمرار الحضارة في حدِّ ذاتها. إنَّ مبدأ الأداء كان الاسم الذي أطلقه مارکيوز على الصيغة التاريخيَّة النوعيَّة لمبدأ الواقع.

ومثل فائض الكبت الذي يمكن ربطه بمفهوم ماركس الكميِّ في جوهره لفائض القيمة، كان مبدأ الأداء عنده يتطابق ضمنًا مع التوصيف الكيفيِّ لماركس الخاصِّ بالوجود تحت وطأة الرأسماليَّة؛ أي في مفاهيم الاغتراب والتشيُّء: “تحت سيطرة مبدأ الأداء؛ يتحوَّل كلٌّ من الجسد والعقل إلى أدواتٍ للعمل المغترب، فليس بوسعهما العمل كأدواتٍ من هذا النوع إلَّا إذا أُنكِرَت الحرية الليبيديَّة الخاصَّة بالذات.”

المصادر:

١. مدرسة فرانكفورت، ستيلر.

٢. النظرية النقدية، آلن هاو.

٣. اليسار الفرويدي، بول روبنسون.

٤. النظرية النقدية، مقدمة قصيرة جدًا.

٥. السوسيولوجيا والتحليل النفسي، روجيه باستيد.

٦.https://www.encyclopedia.com/psychology/dictionaries-thesauruses-pictures-and-press-releases/adorno-theodor-and-freud

٧. https://www.britannica.com/biography/Herbert-Marcuse

٨. النظرية النقدية، ستيفن إريك برونر.

(function () {

function appendFbScript() {
var js, id = ‘facebook-jssdk’,
fjs = document.getElementsByTagName(‘script’)[0];

if (document.getElementById(id)) return;
js = document.createElement(‘script’);
js.id = id;
js.src = “//connect.facebook.net/ar_AR/sdk.js#xfbml=1&appId=1931834240421227&version=v2.0”;
fjs.parentNode.insertBefore(js, fjs);

window.fbAsyncInit = function () {
FB.init({
appId: ‘1931834240421227’,
xfbml: true,
version: ‘v2.0’
});
FB.Event.subscribe(‘comment.create’, function (comment_data) {
console.log(comment_data);
update_comments_count();
});
FB.Event.subscribe(‘comment.remove’, function (comment_data) {
update_comments_count();
});

function update_comments_count(comment_data, comment_action) {
jQuery.ajax({
type: ‘GET’,
dataType: ‘json’,
url: ‘https://elmahatta.com/wp-admin/admin-ajax.php’,
data: {
action: ‘clear_better_facebook_comments’,
post_id: ‘71655’
},
success: function (data) {
// todo sync comments count here! data have the counts
},
error: function (i, b) {
// todo
}
}
)
};
};

jQuery(document).on(“ajaxified-comments-loaded”,appendFbScript);
}

appendFbScript();

})();



المصدر

التعليقات مغلقة.