موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

الدياليكتيك البيتهوفني – آفاق فلسفيّة‎- وكالة ذي قار


يمكن عدُّ هذا المقال مدخلًا للكونِ البيتهوفني، فهو بمقام تمهيدٍ لما سيأتي مستقبلًا من تحليلات أكثر تفصيلية وتخصيصًا لكلِّ نمط كون بيتهوفني، بل وبالإمكان جعلُ هذا المقال خطوةً لما قد يأتي من تحليلاتٍ فيما يتعلق بتحليل فينومينولوجي لخبرة الإنسان-المتلقي بمؤلفات أهمِّ أعلام الموسيقى الكلاسيكية؛ وبناءً عليه فما قد يبدو موجزًا في الطرح هاهنا أو تعميمًا دون مسوِّغات رصينة نظريًا سيتمُ بسطُه في مقالات قادمة بشكل أكثر جذرية.

ليس تحليلنا هنا قائمًا على مماثلةٍ محضةٍ أو عمليةِ تأويلٍ تخلق وقائعَ مشوهة لخدمة أغراضها، بل سنحاول الاقتراب مما هو جوهريٌّ بين حقلين يُعدّان في نظرنا أسمى ما توصَّل إليه العقل الإنساني وأشدّه تعاليًا عمّا هو حسيٌّ مباشر، هذان الحقلان هما الفلسفة، والموسيقى.

بإمكاننا القول أنَّ المشترك بين أبناء حقبة الثورة الفرنسية وما تلاها أنهم قد خبروا الإلهامَ نفسَه ولكن بإنتاج مختلف، فنفسُ الظروف التاريخية والاجتماعية التي تشكٌَلت فيها كينونةُ هيجل الفيلسوف صاحب النسقِ الأكثر عمقًا وشمولًا وضرورة، لهي نفس الظروف التي اشتبك معها وصارعها وبرزت فيها كينونة بيتهوفن بوصفه الموسيقيَّ الأعظم والأشمل على مرِّ العصور؛ ولذلك حين نقول أنَّ تحليلنا هنا غيرُ قائمٍ على رؤى ذاتية غير مؤسَّسة تاريخيًا فإننا على حقّ في قولنا ذلك.

النسق البيتهوفني بما هو ضرورة

نعتقد أنَّ لكلِّ ضرورة ضُرًّا[1] يوجب حضورها إلى الوجود، هذا الضُرّ يتمثل في حركة التاريخ التحتي والفوقي (أي تحوِّلات البنى الاجتماعية والاقتصادية من جانب، وعلى الجانب الآخر تحوِّلات عالم الروح)، إن ضُرَّ النسق البيتهوفني كما نوَّهنا بشكل موجز في المقدِّمة يتجلّى في الثورة الفرنسية وما نتج عنها من تحوُّلٍ في البنى المجتمعية في أوروبا، وهو ما يتضِّح في صعود الطبقة البورجوازية الجديدة على حساب الأرستقراطية القديمة، تلك الطبقة الجديدة التي عبَّرت بنياتها الفوقية من فلسفة وفن وعلم عن حالة من التفاؤل الإنساني القويّ والأمل في عالمٍ حرٍّ معقلن بشكل كامل، عالم يتمتَّع فيه كل إنسان بحقوقه الطبيعية، أما الضرَّ الثاني الذي دفع الضرورة البيتهوفينية هو وضع الموسيقى الكلاسيكية[2] في تلك الآونة؛ إذ مثَّل بيتهوفن في تاريخ الموسيقى مدرسةً قائمة بذاته وهي الرومانتيكية البطولية، بالإضافة إلى كونه مَعْبرًا للموسيقى من الكلاسيكية إلى الرومانتيكية، فبين تراثٍ شكَّلَه باخ وهيندل وهايدن وجلوك وموتسارت، ومستقبلٍ يقبع فيه شوبرت وشومان وبرامز وليست وبروكنر وغيرهم، وقف بيتهوفن شامخًا منتصبَ القامة -كبطلِ لوحة كاسبر دافيد فردريش- مستشرفًا ما هو مقبِلٌ، مدركًا آثار الماضي الثري، معلنًا أنه البطل الذي سيأخذ مهمّة جلب الجديد  إلى عالمٍ يعاني فيه القديم سكرات الموت ويصارع فيه الجديد حتى يُولَد، هذا الوعي الذاتي العميقُ بالموقع في التاريخ يَسِم حسب هيجل الأبطالَ المسؤولين عن تحقيق حركة تاريخ العالم إلى الأبد، وبيتهوفن واحدٌ بالتأكيد من هؤلاء.

ديالكتيكية بيتهوفن:

الديالكتيكية هي بالضرورة حركة الصيرورة، فمفهوم الديالكتيك الهيجلي يتضمَّن ويفترض الوصولَ من نقطة إلى نقطة أعلى بتوسُّط نقيض النقطة الأولى، ولذلك يمكننا أن نقول بتوسُّطية المركَّب البيتهوفني فهو مكوَّن من اللحن ونقيضه (الذي يحمله في أحشائه قبل تجليّه أمامنا على مسرح الخلق الموسيقي)، هذا المركَّب ليس صلحًا أو تسويةً بل هو هدنة لتناقضٍ أكثرَ عمقًا وجذرية، حتى نصل إلى اللحن الأول وهو كائن صيروري تتشكلُ هويّته مما اكتسبه في مراحله الأسبق، وكأنَّنا نعود إلى المرحلة التكوينية الأولى ولكنّها معكوسة فهي ليست مجرَّدةً فارغة مثل كل البدايات بل حاملة لكل ما يمكن تعيينه داخل الإطار الموسيقي، إنَّ المستمع إلى بيتهوفن يجد نفسه في حيرة ودهشة إزاء تناقض داخلي مبطَّن، أو بإمكاننا أن نطلق عليه عنصر السّلب البيتهوفني، السلب يحضر في كل أعمال بيتهوفن بدرجة أو بأخرى، يتجلَّى في ذروته في إنماءاته؛ إذ يأخذنا بيتهوفن إلى مقام المؤلِّف الناظر إلى البنى التكوينية للعمل، في قسم الإنماء[3] يبزغ اللحن القديم لكنّه يلاقي خصمًا سالبًا له منكرًا إمكانه يريد السيادة المطلقة، يبدأ الصراع بين الطرفين، يسعى الطرفان إلى تسليح الآلات كلٌّ لصالحه، في هذه اللحظة يجد المستمع نفسه وسط ميدان المعركة المحتدمة، وبعد تأكيد الذات بين المتناقضين ينشأ اتحاد بينهما يؤكد تمايزهما في ذاته في نفس الآن، تلك السمة المتكرِّرة في كلّ أعمال بيتهوفن تذكِّرنا بوصف هيجل لطغيان حضور السلب في سيرورة الوعي بالذات في العالم، إنّ جوهر بيتهوفن يسلب نفسه بنفسه خالقًا عَرضًا جديدًا كطورٍ من أطوار الجوهر الفعّال، لكنّ هذا العَرض الجديد يصير من كونه منفعلًا إلى جوهر فاعل في صيرورة جديدة يتسِّم بالمباشرة ليسلب نفسه من جديد في توسط الآخر وهكذا، وإذا كنا نجد الوجود بوصفه صيرورة جدلية -تبدأ من مقولة الوجود الخالص كحجر أساس لتشكيل العالم بأكمله – مُتفكَّرًا لدى هيجل، فإننا نخبَر هذا الوجود مقولًا في تجليات بيتهوفن.

امتدادًا لتحليلنا لديالكتيكية النسق البيتهوفني تتكشَّف لنا التقنية التي بواسطتها تُدشَّن أبنية بيتهوفن الشامخة، وهي الارتجال الحرُّ، يلعب الارتجال الحرُّ دورًا جوهريًا في عملية التأليف لدى بيتهوفن، ويمكننا أن نلاحظ بوضوح هذه التقنية البيتهوفينية في خلق الألحان من وحدات ميكرووية (حسب تعبير د.كريم الصياد)، إن الارتجال كما يتجلى في إنماء الألحان يمثل العنصر الحرّ في الضرورة الداخلية للنسق البيتهوفني، نقصد أنّ الارتجال البيتهوفني والضرورة أو الحتمية الداخلية هما وجها عملة واحدة، فالارتجال باستنفاده كل الممكنات الكامنة داخل الوحدات الميكرووية أو البنى التكوينية للعمل الموسيقي يضعنا أمام إدراك لعدم قابلية سيرورة البنى الميكرووية أو الوحدات اللحنية أن تكون غير السيرورة التي شقَّ الطريق إليها بيتهوفن، فمن جهة يكون بيتهوفن كالإله حرًّا في تشكيل كونه الشبيه بالصروح المعمارية العملاقة والارتجال في إخراجه، ومن جهة أخرى فهو يكشف لنا تحققّ كل ممكن موسيقي في موسيقاه حتمًا وضرورة، ليحولنا إلى موقف شوبرت حينما تساءل: ماذا نؤلف بعد بيتهوفن؟ وهو الذي حققَّ مشروع الكون[4] في أعماله.

لكن ما معنى قولنا بتحقيق بيتهوفن لمشروع الكون؟

إنَّ بيتهوفن يكشف في أعماله الكبرى لنا عن أنماطٍ أساسيةٍ مختلفة للكون، وقد صنَّفنا هذه الأنماط وفقًا إلى هويّة صاحب المنظور فيها، وبالتالي يصبح لدينا أنماط إنسانية، وأنماط إلهية أو أنماط ثيولوجية، وأنماط بشرية، ويخضع تحت التصنيف الأول كل من السيمفونية الثالثة (الإيرويكا)، والسيمفونية السادسة (الباستورال) ، أما التصنيف الثاني فيتضمَّن السيمفونية الخامسة، والسيمفونية التاسعة[5]، وقد رُكِّزَ في الطرح على الأعمال السيمفونية نظرًا إلى اعتقادنا في كونها أبنية شامخة ممتدة تتيح للمستمع، بوصفها التعبيرَ الأكثر جلاءً لأضخم أنماط الكون البيتهوفني ، الدخولَ إلى هذا الكون.

أنماط الكون البشرية

السيمفونية الثالثة (الإيرويكا)

يؤسِّس بيتهوفن في هذا العمل نمطَ وجود لم يسبق لأحد في تاريخ الموسيقى كشفه من قبل، ويعكس هذا التأسيس الروحَ الثورية والبطولية لبيتهوفن التي اتصلت بالواقع الحيّ واشتبكت معه وقرَّرت أن تناظِر حركة الموسيقى مع حركة التاريخ، وأن تدشنّ البطل (من منظور بشري) في وقت كان نابليون فيه قوةً فاعلة جديدة بدأت في ممارسة فاعليتها على مسرح التاريخ، نلاحظ في هذا العمل توازٍ جديدًا من نوعه كأنَّنا أمام سيمفونيتين[6] وليس سيمفونية واحدة، سيمفونية مرتفعة الطبقات، وسيمفونية للآلات منخفضة الطبقات، لا نعتقد أن معيّة السيمفونيتين ظاهرة دالة على عبقرية بيتهوفن في التأليف والتعقيد البنائي فقط، بل هي تنمُّ عن شعور وثيق سابر أغوارَ حركة التاريخ، فالسيمفونية الأولى في الثالثة ذات الطبقات المرتفعة تعبِّر عما يظهر من حركة في التاريخ، أي تُكشَف لنا حركة التاريخ في هذه المرحلة من منظور مؤرَّخ، أما السيمفونية الثانية ذات الطبقات المنخفضة فهي تكشِف لنا حدوث التاريخ من منظور محايث، بمعنى أننا نَخْبَر حركة التاريخ من منظور الروح -المُحاوَل قولُه في هذه السيمفونية- الدافع لحركة التاريخ الذي يحمل في باطنه حتميته وغايته المطلقة (سنعثر فيما بعد على تجلٍّ آخر لهذا الحدس التاريخي العميق لدى بيتهوفن لكن من منظور إلهي-لاهوتي في السيمفونية التاسعة).

تتابع حركات السيمفونية من البداية الملحمية مع اشتباك السيوف إلى المارش الجنائزي ثم الصراع فالانتصار النهائي للبطل تحت وقع أصوات ركض الخيول في ساحة المعركة، يشرِّح بيتهوفن كالجراحين مسيرةَ البطل -(وهو قد تنبأ في الإيرويكا بسيرورة نابليون ومنتهاها قبل المنتهى الفعلي ب17 عامًا!)- يظهر البطل في مرحلته التاريخية كذروة لحركة الروح في هذه المرحلة، وتحقيقٍ لكلِّ ما دفع البشرية الأوروبية إلى نفس المرحلة، ويبدأ في طور صيرورته الأول كبطل ملهمٍ في حمل لواء الحرية والمساواة وفي نفس الآن يكون له من الصفات الشجاعة والعبقرية الاستراتيجية، نشعر في الحركة الأولى في الإيرويكا بروح المداهمة النابوليونية، كما نخبر معنى أن تكون نابليون، ومع صوت ضربات السيوف في المعركة تتجلَّى لنا القيم المشكِّلة لأطراف المعركة فبين القيم الجمهورية التقدُّمية والقيم الملكية الرجعية شكَّل بيتهوفن نابليون كبطل تاريخ يكافح الثانية لصالح الأولى، في الحركة الثانية يعلن بيتهوفن على حين فجأةً تقديم الشعائر الجنائزية للبطل وما يصحبها من كَمدٍ ويأس، كيف يموت البطل بعد معارك حامية في بداية مسيرته؟ لا نجد هنا تفسيرًا خارج السياق الشكلي للسيمفونية في الموسيقى الكلاسيكية، لكن يمكن أن نؤوِّل دخول هذه الحركة كحركة ثانية في كونها نبوءةً سبقت تحقُّقها 17 عامًا ففيها يرثي بيتهوفن نابليون، ويُبلِغنا بحمل البطل في ذاته بذرة الموت حين تنسينا المعارك ذلك، أما في الحركة الثالثة فنشعر بظلام المارش الجنائزي ينقشع تدريجيًا لندخل مرحلةً صراعية من جديد، وفي الحركة الرابعة يكون البطل روح العالم على ظهر حصان، صارعًا القديم وآتيًا بالجديد إلى العالم، ولا نعلم هاهنا هل كان بيتهوفن يروي تاريخَه كبطل أم تاريخَ نابليون؛ إذ مع الإيرويكا انتقل القديم إلى الذاكرة ووُلِد الجديد (الرومانتيكية) بواسطة بيتهوفن!

أن تكون أمام لحظة البدء

قد يعجبك أيضًا

إنَّ السيمفونية السادسة لبيتهوفن تجعل عملية التنقيب بالنسبة لنا فيما تمثلّه أقلَّ صعوبةً في مقابل الأعمال الأخرى، وبالأخص الفردية[7]؛ نظرًا إلى أفقها التأويلي المحدود بأوصاف بيتهوفن، يكشف لنا بيتهوفن في هذا العمل كيفيةً أخرى من كيفيات الوجود وهو الوجودُ الأصيل قبل التقني، يتضِّح هذا في حضور الطبيعة الطاغي في العمل، فالإنسان هنا كائنٌ من كائنات الطبيعة بريء لم تمسخ ماهيّته وتستلبه مظاهرُ التقانة، هو عالم أقرب إلى سلام المزارع مع الأرض حيث يكون الإنسان والطبيعة في سكينة، لا يتوسَّط فيه التقني بين العالم الخارجي والإنسان، حتى حينما تأتى عاصفة على الراعي المسالم فإنها تنجلي في هدوء سنن الطبيعة، هذا العالم المبهج الذي تتكشَّف فيه الحقيقة للمتأمِّل، وينفتح الوجود في أعماقه لراعيه، هنا الوجودُ البدئي للشاعر والفيلسوف، وهنا ذكرى مؤلمةٌ لوجودٍ فُقِد إلى الأبد.

أنماط الكون المتعالية- الإلهية[8]

بيتهوفن جوهريًّا براهمان لكنْ له مظهران لا ثلاثة، مظهرٌ محايثٌ وهو ما تعرَّفنا عليه في الفقرات السابقة، ومظهرٌ متعالٍ وهو ما سنقترب منه في الفقرات الآتية، فبينما نرصد بيتهوفن الإنسان في  الإيرويكا والباستورال، يتجلّى لنا المظهر الثاني  من الجوهر البيتهوفني، وهو بيتهوفن الإله أو كما يطلق عليه د.كريم الصياد- بيتهوفن الصَّمَد، يعرِّف كانط الترنسندنتالي في كتابه “نقد العقل المحض”كونه تعيين شيء بالنظر إلى ماهيته كشيء[9]“، هذه بالتحديد فاعلية بيتهوفن الترنسندنتالي.

الإنسان بما هو بطل

تتسِّم كل من خامسة بيتهوفن وتاسعته، والرباعيات الأخيرة، وقُدّاسه الأخير بكونها أقرب ما يمكن إلى السرديات الكبرى، أو ملاحم آلهة الإغريق، ليس كل عمل منهم تشريح لجزء أو وضع ما، بل هو تأريخ مكتمل مغلق على ذاته، ولِنَأتِ إلى سيمفونية “القدر يطرق الباب”..

تتكوَّن السيمفونية من أربع حركات وهي الأشهر من بين أعمال بيتهوفن تقريبًا، وقد اعتاد الجميع تأويلها عبر الحركات الأربعة فالقدر يصعق الإنسان، ثم يأسى الإنسان حاله ويهادنه، فيأخذ على عاتقه التغلُّب عليه، ثم ينتصر عليه في احتفالية ملحمية، لكننا هنا لا نريد أن نضع هذه الكلمات المعتادة -التي لا يفتأ الـ “هٌم” يردِّدونها حتى الابتذال- أفقًا تأويليًا لنا، وللخروج بتأويل أصيل علينا التحررُ من هذا الأفق التأويلي بالضرورة، ولذلك سنسير تدريجيًا في هذه العملية، من أين نُخاطَب في خامسة بيتهوفن؟ وما المقول فيها؟

يخاطبنا بيتهوفن من موقع إله لا إنسان في هذا العمل، ويوحي بذلك اتباع أسلوب التأليف الميكرووي[10] الذي يشعر المستمع أنه أمام الخالق، أما عن المقول في الخامسة فهو أقرب إلى كشف تخوم كينونة الإنسان في العالم، ماذا نقصد ب”تخوم كينونة الإنسان”؟

يورد معجم المعاني في معنى التخوم أنها حدود فاصلةٌ بين الأراضي، ونحن هنا نستخدمها بنفس المعنى على قدر من التحفُّظ فالتخوم لدينا هي الحدود التي تفصل بين كينونة الإنسان والعدم، فأي تخم يسنُّه لنا بيتهوفن في الخامسة؟

هذا التخم هو الصراع الأبدي والمعاناة بوصفهما مكوِّنين لكينونة الإنسان في العالم، لا يسخر بيتهوفن من هذا المصير التراجيدي للإنسان في العالم، بل يُعبّر عن تقديره الشديد للإنسان كبطل حقيقي، بطل يظل حتى رمقه الأخير ذا وجود صراعي في سبيل الحياة، هذه الرؤية الإلهية للإنسان بوصفه بطلًا تسلب التصوّر المسيحي للإنسان بشكل كامل؛ إذ يُتصوَّر الإنسان في المسيحية خطاءً ومعاناته في الوجود ناتجة عن خطيئة أصلية، الإنسان يحتاج الخلاص (وهي العقيدة التي سيقلبها بيتهوفن في تاسعته)، أما في خامسة بيتهوفن فالإنسان نبيل أصلًا وجدير بالتقدير، وليس عليه أن يكتسب نعمة الخلاص، بل تحتَّم إليه جراء بطولته النبيلة أن ينتزع الانتصار بنفسه دون أي تفضّلٍ إلهي عليه.

إعلان غاية حركة الروح ترنسندنتاليًا (بالمعنى الكانطي)

قد يعجبك أيضًا

“وكان روح الله يرفّ على وجه الظلمة”، “في البدء كان الكلمة”، عباراتا البدء هاتان في الكتاب المقدَّس تجسِّدان لنا اللحظة البيتهوفنية الأولى عند مطلع الحركة الأولى في تاسعته، اللحظة البيتهوفنية تمثِّل البدء، والحركة الرابعة مع انطلاق أوَّل صوت بشري تُجسِّد ملء الزمان وتحقِّق التاريخ من منظور إلهي.

في البدء كان اللوجوس محتجبًا، لم يتكشف الكائن بعد، والتقوقع هو الحال الأول للكائن من دون لوجوس، كل هذا يتجلَّى لنا في همهمات الوتريات في الحركة الأولى أو كما أطلق عليها شومان “سفر التكوين“، في الحركة الأولى يبدأ روح العالم انبثاقه، ويبدأ اللوجوس تَكَشُّفه للكائن الذي لا يحضر إلَّا في الحقبة النهائية للتاريخ البيتهوفني (الحركة الرابعة)، كل شيء في البدء يكون غير قابل للتعيُّن فلا يمكن في الحركة الأولى (البدء البيتهوفني) أن نتعرَّف على ما هو متجسِّد، بل ندور في أفلاك تشبه أفلاك الواحد الأفلوطيني قبل وصوله إلى فلك القمر، لكن بيتهوفن يجعلنا نحدس العهد الآتي بالصراعات الباطنية المحتجبة خلف الأصوات المرتفعة، مع دخول صعقتي الحركة الثانية، نبدأ الشعور بتوجُّس، قلق، واضطراب غير مفهوم، لا نعلم شيئًا لقد أُخذ المستمع على حين غرةً ليجد الصراع قائمًا أمامه في توهُّجه، ما هما طرفا الصراع؟

لا أحدَ يعلم، لكن لا بد من التأكيد على أنَّ المتعيَّن بدأ في الظهور مع هذه اللحظة، بعد الصراع في بداية الحركة الثانية والوصول إلى الذروة نجدنا أمام هدنة مؤقتة قبل استعادة الصراع ذروته مرةً أخرى هي أقرب ما يكون للحركة الجدلية لروح العالم في وصوله لمرحلة الوعي الذاتي في مرحلة الوجود المتعيَّن كما وصفها هيجل في فينومينولوجيا الروح فنحن لسنا بعد أمام التعيُّن النهائي ولا نحن في مملكة المجرَّد، بل هي مرحلة وسطى، هنا يتكشَّف لنا السلام الأشبه بالحلم الجميل، هنا بداية إعلان مملكة الروح عن ذاتها للكائن، لكن ليس بعد، لا بدَّ من مرحلة صراعية يقاوم فيها اللوجوس التكشف للموجود (الإنسان)، مرحلة ارتدادية لما سبق، فلا قِبَل لأحد بالعهد الآتي، عهد التحقُّق، وكأنَّه صراع بين الجديد والقديم مرة أخرى لكن من منظور ترنسندنتالي فقد رأينا هذا الصراع من منظور حركة الروح المحايثة في الإيرويكا، وهذا ما نوَّهنا بشأنه في حديثنا عن الحدس التاريخي العميق لبيتهوفن، تريد الوتريات ذات الطبقات المنخفضة جلب الجديد إلى الحضور، والبقية تقاوم بشدة فتعود للبدء، ثم تزأر الوتريات من جديد في وجه هذه الردَّة المقاومة لحركة الروح الحتمية، فتعاود الآلات المحاولة في استحضار سكرتسو الحركة الثانية، لتزأر مرة ثانية الوتريات منخفضة الطبقات معلنة أنَّ هذا قدر اللوغوس أن يتكشَّف للإنسان، لتحاول الآلات يائسة في العودة إلى هدنة الحلم الجميل وسكينته، لتقوم الوتريات بنهرها وبدء العمل على استحضار الجديد، على تحقيق الغاية من الحركة التاريخية للوجوس وهو ما ينجح ليفصح لنا عن مشهد مهيب يُعلَن فيه عن الكائن الذي ينفتح في حضرته اللوجوس وهو الإنسان، الإنسان وحده من يتكشَّف له اللوجوس، تبدأ جوقة البشر في إنشاد نشيد الفرح بعد إعلان السِّر للإنسان والاتحاد باللوغوس، وهي سردية معكوسة لسردية الديانة المسيحية، في هذه اللحظة يعلن بيتهوفن إكمال المشروع الأشدِّ جذريةً في تاريخ الموسيقى.


المصادر والمراجع:

د.حسين فوزي، “بيتهوفن”، دار المعارف، 1989

د.كريم الصياد، “كيف تستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية”، معازف، 2018

د.كريم الصياد، “بيتهوفن يقدم موسيقى خالصة، عن الحركة الأولى من إيرويكا”، معازف، 2019

د.كريم الصياد، “بيتهوفن الصمد”، معازف 2020

جي.سوليفان، “بتهوفن..دراسة في تطوره الروحي”، ترجمة: “نجيب المانع”، منشورات وزارة الإعلام- الجمهورية العراقية، 1975

بول هنري لانج، “الموسيقى في حضارة الغربية”، الجزء الثاني، ترجمة: د.أحمد حمدي محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984

قد يعجبك أيضًا

Hegel, “Introduction a l’esthétique”, Aubier-Montaigne, Paris, 1964

Emil Ludwig, “Beethoven, vie d’un conquérant ‘’, tra. Jean Longeville


[1] نشير باللفظ  ضرّ ما يحمل الضرورة على الحدوث، بمعنى أن الضر يضطر الضرورة للحدوث، وبالتالي يكون للضُر ها هنا أسبقية أنطولوجية على الضرورة بما هو شرطها.

[2] لاحظ أننا حين نتحدث عن الموسيقى الكلاسيكية فإننا نتحدث عن الموسيقى الكلاسيكية الغربية بوصفها موسيقى الحضارة الغربية بكل مراحلها (الضمير عائد على الموسيقى لا الحضارة)، لا الحقبة الكلاسيكية فقط

[3] يشير مصطلح الإنماء إلى اشتقاق البنى التكوينية للحن وإعادة تشكيلها والانتقال منها إلى تحقق إمكاناتها التي هي حبلى بها، وبالتالي يمكننا القول أن اللحن عند الإنماء يشبه مشروع استشراف دائم لما هو بعدُ.

[4] الكون في سياق حديثنا لا تدل على الفضاء الخارجي أو أي دلالة علمية (أي تنتمي للعلوم الطبيعية)، بل هي مصدر من الفعل يكون وقد تغاضينا عن استعمال الوجود بسبب عدم قابلية اللفظ للاشتقاق في صيغة اسم الفاعل، وهو ما ينتج عنه الإحالة إلى الكائن بوصفه قابلًا ومنفعلًا، وهو ما لا يتناسب مع مقصدنا.

[5] هذا لا يتضمن تفضيلًا جماليًا للبناء السيمفوني على حساب بناء الرباعي الوتري أو الكونشرتو أو السوناتا، لكن مسوغ اقتصارنا على تناول الأبنية السيمفونية هو يسر تلقيها على المستمع بشكل عام ووضوح أنماط الكون فيها وذلك عائد إلى المساحة التعبيرية الهائلة المتجلية في سيمفونيات بيتهوفن، أما الأبنية- الأشكال الموسيقية الأخرى فيتجلى فيها أنماط كون ولكن بهيئة أكثر احتجابًا واستعصاءً على التناول والتتبع في مقال مدخلي كهذا.

[6] يتضح ذلك بتطبيق عملية عزل صوتي بين المعزوف بواسطة الآلات مرتفعة الطبقات عن معزوف الآلات منخفضة الطبقات؛ إذ إننا نجد بعد هذا العزل أن ما تعزفه الآلات منخفضة الطبقات-وهو الذي عادة ما يقتصر على كونه أساس وخلفية لمعزوف الآلات مرتفعة الطبقات- هو بناء كامل لا فراغ فيه، بمعنى أننا لو فصلنا معزوفيّ السيمفونية لوجدنا أن كل معزوف يمثل سيمفونية قائمة بذاتها.

[7] نقصد هاهنا السيمفونيات ذات التصنيفات الفردية كالثالثة والخامسة والتاسعة

[8] المتعالي هو المفارق للعالم الحسي، ولا يمكن أن يستدل عليه بالتجربة أو بالطرق العلمية في البحث، وقد نقول المتعالي بمعنى الأساس القبلي لما هو بعدي، وبناءً عليه يمكننا أن نستعين بصفة الألوهية في حديثنا مجازًا، نظرًا إلى وجود ما يشبه التماهي بين الذات الإلهية وصفة التعالي التي تكاد تصل إلى مرحلة الجوهر، ويُقال “محايث” في مقابل متعالٍ.

[9] لم ترد هذه الملاحظة في النص المترجم لنقد العقل المحض، بل نُقِلَت عن كتاب هيدجر “السؤال عن الشيء”، ترجمة “إسماعيل المصدق”، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2012

[10] انظر د.كريم الصياد، “بيتهوفن الصمد”، النبية الميكرووية، معازف





المصدر

التعليقات مغلقة.