موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

قصة قصيرة الوداع الأخير

مازن مريزة ///

انحدرت دمعتان دافئتان على وجنتيه لتخفف بعض الشيء من برودة غرفته في الطابق الثالث من المستشفى الذي يرقد فيه منذ شهور ، امتدت يديه ربما للمرة الألف إلى جواله خلال الليلة الماضية ، ليرى إن كانت قد بعثت له برسالة أو ربما تكون قد حاولت الاتصال به ، فهو لم يعد يعهد لنفسه صحواً مستمرا طوال الوقت ، فمنذ أن زارته نوبة الإغماءات القصيرة منذ أسبوعين لم يعد واثقا من شيء ، ففي صحوته يحلم بها ، ويخيل إليه انه يحلم بها أثناء غيبوبته أيضا ، بالأمس حلم بها أكثر من مرة ، لم يكن متأكدا ، ربما رآها بالواقع ، حلم بأنها زارته بثوبها الوردي ذي الأكمام القصيرة ، الذي أقتنه خصيصا لترتديه في عيد ميلاده السنة الماضية ، كانت مبتسمة على عادتها ، لكنها لم تتمكن من إخفاء مسحة الكآبة عن وجهها بصورة كاملة ، جلست على حافة السرير ، تتأمل وجهه النحيل ، الذي فقد الكثير من إشراقه واكتنازه في الأسابيع الماضية ، همست بخفوت : لا تمت ، أرجوك لا تمت ، لم تكن تعتقد بأنه كان يسمعها ، فتح عينيه بصعوبة ، كان متعبا ، وكان كل شيء من حوله ضبابيا إلا وجهها الصافي وعيناها الدمعتان ، ترددت لحظات قبل أن يقول لها : أود أن أطلب منك طلبا ربما يكون الأخير ، تنهدت مكتئبة مع إيماءة من رأسها مشيرة إلى قبولها من دون أن تسمعه ، قال لها : أريد منك أن لا تمسحي رقم جوالي بعد أن أموت ، دعيه محفوظا لديك ، وإن اشتقت لي ، فأرسلي لي رسالة ، لا تتعجبي فستصلني في كل الأحوال ، ربما لن يأتيك الرد مني برسالة مثلها ، ولكن تأكدي بأن الرسالة ستصلني في قبري ، وستؤنس وحدتي ووحشتي ، حبيبتي ، لا تستغربي فأنا لا أهذي ، ستسمعك روحي وستراك عيني ، إن ضاقت عليك الدنيا من بعدي ، وإن لم تسمعي مني جواب ، فاعذريني ، فأنت أعرف بظروف جسدي الهامد العاجز ، قالت له يبدو أنك بمزاج معتم اليوم ، واتجهت نحو الباب لتستدعي إحدى الممرضات ، لكنها عادت بعد أن قال لها بلهجة تسبح بين لجج الدموع ، ما كان مزاجي يوما أصفى من الآن تعالي لأودع نفسي فيك ، لم تستطع من أن تتمالك نفسها ، فعادت إليه ودفنت رأسها في صدره ، وانهارت في استسلام ، لتنخرط في بكاء مرير ، حاولت أن تلم شتات نفسها ، وأن تنظم كلماتها ، وتتمالك زمام مشاعرها من جديد ، قالت له (( ما بك حبيبي اليوم )) ، أجابها بصوت أشبه بالحشرجة منه إلى الصوت البشري ، أنه الوداع ..يا حبيبتي … لقد رأيت أبي اليوم … لقد دعاني إليه … لا ادري إن كنت رأيته في صحوتي أو منامي ، ولكنه شدد على ضرورة حضوري إليه بسرعة ، كانت تتعذب ، وتتذكر كيف تعرفت عليه قبل بضعة سنين ، أحبته وأحبها ، أصبحا متلازمين ليلا ونهارا ، كتوأمين سياميين لا كحبيبين وحسب ، يتشابهان في معظم الأشياء ، كان حبهما مثاليا يُقتدى به ، كان يحدثها عن أحلامه … عن حب بلا حدود ، عن شِعره ، ورؤيته لكل شيء حوله ، وعندما كان يتحدث عن حبه ، أو حينما تسأله عن نهاية أحلامه معها ، كان يسرح قبل أن يجيب ، بأنها حبه المؤلم سيحتاج إلى معجزة للبقاء معا أبد العمر ، كانت تجيبه في أمل : (وما أدراك ، ربما القدر يبتسم لنا أخيرا ، وينعش حياتنا ) ، لكنه يجيب دوما ، حب بلا حدود وبلا نهاية يا حبيبتي ، لكنها قررت أن تستمر رغم ألمها بأن لا تنهي قصة حبها الأثيرة بكلمة وداع ، لتنتهي كآلاف قصص الحب العادية التي تنتهي عادة بكلمة وداع ، قررت أن لا تستسلم للقدر ، غير مدركة بأن القدر سيغلبها في هذا اليوم بالتحديد.

   أخرَجَتَها مرة أخرى من ذاكرتها، كلماته المتعبة وهو يقول لها: أتتذكرين حينما قلتُ لك : بأنك لن تكوني لي  ؟

 ، ولكني سأبقى أعشقك إلى الأبد ، وستبقين الحب الأخير في حياتي ..وسيتذكر قلبي المكدود أنني ما بكيت في حياتي إلا لأجلك فقط ، قد لا أجد الآن وأنا أودعك كلمات مناسبة لأصف  لك حبي ، ولكنك تستطيعين على الأقل أن تفهمي موقفي دون أن أشرح لك المزيد، بعد قليل سأستسلم لحكم القدر ، نفس القدر الذي كنت أحدثك عنه ، وسأدعو الله كثيرا  لينسيك هذا الحب وهذا الألم.   لم ينتظر أن يسمع صوتها ، فقد خنقتها دموعها ، وهي تحتضن جواله بين يديها ، وتهمس : أعدك بأنني لن أمسح رقمك ، وسأبقى أرسل لك رسائل الحب والشوق والشكوى ،قالت جملتها الأخيرة وهي ما زالت لا تريد أن تنهي حكايتها بكلمة وداع ، لكنه كان مصرا على أن ينهي أحلامها هذه المرة  .

 

 

 

 

مازن مريزة

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.