موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

حيوية المقتربات اللسانية الثقافية والمعرفية

حيوية المقتربات اللسانية

الثقافية والمعرفية

في كتاب الواح رافدينية، حكايا الماء والقصب والطين *

للدكتور عبد الامير الحمداني

 

قراءة: عبد الكريم عيسى

 

الجزء الاول:

تجري اليات حركة موضوعات كتاب ((الواح رافدينية، حكايا الماء والقصب والطين))، للدكتور عبد الامير الحمداني، بطريقة المناقشات الاجرائية وما بعدها لإنتاج المعرفة والتوافق مع الفهم الجدلي للحياة والعالم. ويستثمر توظيف المعلومات الاثنواغرفية والأنثروبولوجية في تحفيز وجهات النظر والحوار الثقافي والمعرفي مع المدونات الاثارية. ويدور ذلك، في منظار العلاقة بين اهتمامات موضوع الأنثروبولوجيا في دراسة الانسان من ناحية، ومن

 

ناحية اخرى من منظار علم الاثنوغرافيا: ((استخدام وتطبيق ما يصطلح عليه بنموذج القياس العلائقي ونموذج العلاقة المكانية الوراثية، اذ تظهر المجتمعات التي تعيش في بيئات متماثلة ومرتكزات وقيم اجتماعية وثقافية متشابهة … ص 13). وعلى وجه العموم، يتجه مؤشر بوصلة فصول الكتاب في مدياتها السردية والشعرية على تفاعلات كلا العلِمين انفي الذكر واهتمامهما بثقافة الانسان وحياته الاجتماعية وتفاعله مع الاخرين والطبيعة. وتعمل الأنثروبولوجيا الثقافية في مشغل هذا المنجز بطريقة تداولية كواحدة من اهم المقتربات الى علم الاثار الى جانب الاثنوغرافيا. فيتجه المؤلف الى تشكيل الرؤى من خلال ترجمة وتحليل المدونات القارة في الالواح وتمثيلاتها الصورية.

وتتميز لغة هذا الكاتب في مدياتها السردية والشعرية بطاقة توصيلية عالية الاداء. وتمتاز بالمكافئات الاستعارية لما تتسم به من شعرية في تطابق دوالها مع مدلولاتها، فضلا عن تمثيلاتها الكنائية في العقل. وتتوفر على كفاءة

 

لإنتاج المعرفة، عبر الملفوظات او الكلمات المرتبطة بالتصورات العقلية والاشياء كوقائع خارجية. اذ تحمل المختارات اللغوية في مدياتها البنيوية والسردية بعدا تصوريا في عملية الدلالة التي تجري في الذهن الانساني واستخدامه للمفهوم العقلي الذي يجري بالكلمات كأصغر الوحدات اللغوية الحافلة بالمعنى، فيوحي على سبيل المثال، (النص الشعري الاتي الى دور العقيدة الدينية النهرنيية في صياغة العقل السياسي العراقي القديم …………. وما يمنحه النهر من شعور وحدة الكيان السياسي، ص 31) ((ايها النهر، يا مبدع الاشياء كلها. عندما حفر مجراك الالهة الكبار،)) ص31 الى: ((انتزع ما في جسمي وارمه الى ضفافك

ارمه الى ضفافك او دعه يغور الى اعماقك)). ص 31

مما يعزز الاشارة الى الوقائع خارج عالم الذهن فتتداخل حركة قوانين اللغة بالفكر. ووظائف الكلمات تحيلنا الى النشاطات الثقافية وعالم معاني انماط الحضارة الرافدينية القديمة، ومديات ارتباط مستودع

 

الكلمات بالمتطلبات العقلية لها. وتعمل اللغة في هذا الكتاب من خلال شبكات ملفوظاتها او كلماتها على تشكيل شبكات فكرية تربط بين افراد المجتمع الرافديني لتضيف عليهم هويتهم الثقافية لما تحمله هذه الخطابات اللغوية الفاعلة من انعكاس لكثير من الفعاليات الحياتية اليومية بشتى مستوياتها الادارية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية. فيورد على سبيل المثال؛ ((كان شولجي سياسيا بارعا ومفاوضا ودبلوماسيا مقنعا معتمدا بذلك على براعته وبلاغته وقوته في التعامل مع اللاعبين الاقوياء في بلاده، ص 141)) الى: ((كان يخدم الالهة والناس بثبات وتواضع، ص 141))

ويتضح ذلك ايضا في النص الشعري ((ترانيم شولجي)): –

((الملك جعل اسمه مناسبا وخالدا الى الايام البعيدة

انه شولجي، ملك اور.

ترنيمة لسلطته، اغنية له، الرجل الحكيم.

قيادته ابديه، قد يسلمها الى ذرية الايام المقبلة)) ص 141

الى قوله

 

((انه يمجد قوة كلمة الخير التي تأتي من القلب ص 142))

((شولجي، الراعي المؤمن، القلب المحب يرتدي حلة زاهية

يضع الشعر المستعار تاجا فوق راسه،

نظرت اينانا بتعجب …!

بدا هو يغني بعفوية، ينطق باسمها كما الانشودة، ص 142))

مما يجعلنا نلاحظ في هذه النصوص المنتخبة ان اللغة تتدفق بسماتها البلاغية واعتمادها على المشابهة في تناولها ما يشبه الدال ويماثله من دوال اخرى، هذا من ناحية، واعتمادها على المجاورة اي ما يجاور الدال ويحيط به من تسميات، من ناحية اخرى. وما يلفت الانتباه في المواد المنتخبة بقصدية واعية هو تركيزها على المراجع الخارجية للألواح الاثارية الرافدينية بوصفها اثارا ولقى ووثائق في الماضي وعلى حركية ومرونة البنى الاسطورية الاستعارية في اشعاعات نظام الكلمات والبنى الكنائية الفلسفية في انتاجها للتصورات العقلية الى جانب حضور بنى النظام الوصفي او العلمي في مركزية المرجع او الشي. فنلاحظ قوة التوظيف

الاستعاري في توليد الحكايات التكوينة والتاريخية الى جانب الحضور الفاعل للمفاهيم الكنائية وما تنتجه من علاقات سببية وشرطية في الفكر الاسطوري الرافيديني بما يقيمه من قوانين وقواعد؛ ففي نص جديد لاتراخاسيس، يعود الى اواخر العصر البابلي القديم ((1600 ق.م))، قصة حياة البشر على الارض منذ خلقت به الالهة البشر والى وقت ما بعد الطوفان:

(اتراخاسيس كان رائعا هناك،

في حضرة أيا، دموعه تتدفق.

فتح أيا فمه قائلا لخادمه اتراخاسيس): –

“((من اجل اي شيء واحد كنت تبكي، من اجل الشعب،

كنت راكعا كمن يخافني.

هناك مهمة يتعين القيام بها، ولكنك انت،

انت تعرف كيف تجتازها “، ص 234))

ويتوسل حاكم لارسا، سين ادينام، الى الاله اوتو: –

 

((الطاعون انتشر لأنك تركت مدينتك لارسا…!

ارفع المرض من وسطها…!

ازل العدو من الداخل.، ص 284))

وتحفل النصوص الشعرية بتقانات الوزن والتكرار والتوازي والوصف والموائمة بين جرسية الاصوات والمعاني ومظاهرها البلاغية الى جانب كونها تحمل مهارات التفاعل مع الحياة اليومية الرافدينية القديمة، وتشكل مرتكزات تأسيسية في منظوماتها الفكرية وصياغتها الفنية.

التعليقات مغلقة.