موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

عماد الأرنب ركب «قوارب الموت» إلى لندن … وحقق حلمه-وكالة ذي قار


ترك دمشق وذاكرته تحمل وصفات أمه التي يطبقها اليوم في «مطبخ عماد السوري»

عماد الأرنب طاهٍ سوري هرب من الحرب في بلده سوريا بعدما دمر القصف مطاعمه ولم يعد أمامه أي أمل غير الرحيل وبدء رحلة الخوف والمجهول من لبنان وصولاً إلى مخيم «كاليه»، وكان حلمه الوصول إلى لندن، تحدى الموت أكثر من مرة وهو وفي القارب الذي تقاذفته أمواج الخوف، ولكنه لم يفقد الأمل.

انتظر في مخيم اللاجئين في فرنسا 65 يوماً يصفها بالأيام السوداء التي تتشابه بلونها الداكن ومرارتها، مرارة الغربة والمصير والمجهول ووجع العيش في السراب بعيداً عن عائلته المؤلفة من زوجته وبناته الثلاث.

خلال أيام الانتظار وتقرير المصير أراد أن يكون لاجئاً مفيداً، فبدأ بطهي الطعام البسيط للاجئين أمثاله الذين ينتظرون مصيرهم مثله تماماً، لم يملك إلا وعاءً واحداً وملعقة وسكيناً، ولكنه كان يملك في جعبته المخفية وصفات أمه السورية التقليدية والبسيطة، الذي حلم في الوقت الذي لم يكن لديه الحق بالحلم وهو يعيش أسير القرار والوجهة التي سينتهي به المطاف ليحط رحاله الأخيرة فيها، حلمه كان الوصول إلى لندن وفتح «مطبخ» يطبق فيه وصفات والدته.

وأخيراً تحقق الحلم ووصل إلى لندن عاصمة الأمل عام 2015، عمل في مجالات كثيرة عدة، من بينها بيع السيارات، ولكنه لم يتخل عن شغفه في الطهي حتى بدأ بالتعاون مع مؤسّسات خيريّة تدعم اللاجئين عام 2017، مثل مشروع «الجيل الجديد» التابع لـ«يونيسيف»، وجمعية «اختر الحب» لمساعدة اللاجئين في المملكة المتحدة. وبموجب هذا التعاون، أُطلقت سلسلة مطاعم مؤقتة، ونوادي عشاء، بالإضافة إلى أكشاك لبيع الفلافل.

ذاع صيته في العاصمة البريطانية ونفدت تذاكر نوادي العشاء بسرعة غير مسبوقة، وتجمهر الناس أمام أكشاك الفلافل التي يقوم بتحضيرها بعدما أصبحت نكهتها على كل لسان.

مهارته في الطهي جعلت شهرته تسبقه، فاستضافته أهم برامج الطهي التي تذاع على القناة البريطانية الرسمية، عرّف العالم من خلال إطلالاته الإعلامية على المطبخ السوري الذي أراد الاحتفال به من خلال افتتاح «مطبخ» وليس «مطعماً» ليحيي فيه ذكرى والدته التي توفيت مباشرة بعد وصوله إلى بر الأمان في المملكة المتحدة.

ديكور المطعم بسيط ويذكرك بمقاهي سوريا

سمعت الكثير عن هذا الطاهي «اللاجئ» فهذه الصفة كانت ولا تزال ملاصقة له، افتتح مطعمه الذي أطلق عليه اسم «مطبخ عماد السوري »Imad’s Syrian Kitchen في شارع «كارنابي» في منطقة سوهو في مايو (أيار) عام 2021 متحدياً الجائحة والإغلاق، شدتني قصة نجاحه لزيارته في مطعمه الذي يحلو له تسميته بالمطبخ، استقبلني صوت فيروز الذي كان يصدح بنغماته الهادئة إلى المطعم الواقع في الطابق العلوي من مبنى «كينغلي كورت»، وكان الشيف عماد في الاستقبال وراء الباب الأزرق وبابتسامة عريضة وترحيب شامي حار دخلت إلى واحة تنسيك أنك في لندن، وتأخذك إلى رياض المنازل السورية و«قهوة الزجاج» في بيروت، كراسي بسيطة من الخشب ونوافذ واسعة تتسلل إليها أشعة الشمس اللندنية الخجولة، بلاط بنقشة الأرابيسك الشرقية المميزة وجدران باللون الأبيض تزينها صور عائلية خاصة بالشيف عماد وزوجته وبناته الثلاث.

في مستهل الحديث الذي كان لا بد من التسليط الضوء فيه على مجيئه إلى لندن كلاجئ لفتني رد الشيف عماد بالقول: «اللاجئون ليسوا من كوكب آخر، بل إنهم (أولاد عالم)». وبالفعل ومعه كل الحق بالتنويه بذلك لأن الإعلام في أوروبا عندما يتكلم عن اللاجئين تشعر وكأنهم من مجرة أخرى فننسى أنهم بشر وكانت لهم أوطانهم وحياتهم، ولكن الظروف دفعتهم للهرب بحثاً عن السلم والطمأنينة والسلام.

شغف الأرنب بالطهي واضح وحبه للندن جلي، والسبب – وبحسب قوله – هو اللغة؛ لأنه يرى بأن العيش يسهل في بلد تفهم لغته، وعند وصوله إلى مخيم اللاجئين في كاليه كان يحلم بأن يستطيع العيش والاستقرار في لندن، وليس في ألمانيا بسبب اللغة.

وعن الأيام التي عاشها في كاليه وصفها بأيام صعبة للغاية لأنه كان يستيقظ وحيدا ولم يكن يعرف ما سيخبئه له النهار. صبر وتأمل خيراً إلى أن استطاع الوصول إلى لندن التي يصفها ببيته الآمن بعدما فقد كل شيء في بلده الأم.

حبه واعتزازه بأفراد عائلته الصغيرة واضح من طريقة كلامه، فالبسمة لا تترك معالم وجهه عندما يشير إلى بناته في الصور المعلقة على الجدار وهو يصف ذكاءهن وتفوقهن في المدرسة. ويقول «أهم إنجازاتي في حياتي هي عائلتي واليوم الذي استطعت بأن ألمّ شملنا في لندن بعد طول غياب».

وعندما بدأت الروائح الجميلة تنبعث من المطبخ تحضيراً لوصول الزبائن في تمام منتصف النهار، كان قد حان الوقت للتكلم عن الأطباق التي يقدمها الشيف عماد في مطبخه، فقال، إنه يحب الأكل البسيط والتقليدي، ولائحة الطعام لديه قصيرة قوامها 15 طبقاً فقط تتبدل كل شهر، ولكنها جميعها وصفات أمه التي علّمته الطهي وأشياء كثيرة أخرى. توقف هنا وقال «توفيت أمي بعد وصولي إلى هنا وكأنها كانت تنتظر بأن يطمئن قلبها على ابنها البكر، أمي كانت حياتي ومدرستي التي علمتني كل شيء، من اللغة الإنجليزية التي أتقنتها إلى حب الطهي، والأهم أنها علمتني دروساً في الإنسانية وكيف أكون إنساناً فعالاً في المجتمع».

أطباق عماد مختصرة ومفيدة، ويصفها بأكل البيت؛ لأنه في هذا المكان يشعر وكأنه في بيته في دمشق، فاستخدم مفردات كثيرة مثل اللون الأزرق والشبابيك الخشبية لتذكره دائماً بالمكان الذي جاء منه.

وعن الأكل الشرق أوسطي في لندن، يرى الشيف عماد، أن المطاعم المتوفرة هنا لم تنصف المطبخ اللبناني أو الشرقي بشكل عام؛ لأنها لم تستطع أن تقدم ما يمكنك أن تتناوله في لبنان أو أي بلد عربي آخر يشتهر بمطبخه اللذيذ.ويسعى الأرنب في مطبخه إلى استخدام المنتجات السورية التي يأتي بها من محال في لندن تستوردها من الخارج أو من سوريا مباشرة.

اللافت في قائمة الطعام في «مطبخ عماد السوري» هو عدم وجود الأطباق الشامية التقليدية مثل المشاوي، إنما استعاض عنها بطبق من القرنبيط المشوي مع صلص الطحينة والدجاج بالبرغل، وشدد على لحم الضأن الذي يفضله في الطهي، والصفة المشتركة في الأطباق كلها أنها لذيذة وبسيطة، بالوقت نفسه لا يكثر الشيف من استخدام المنكهات القوية مثل الثوم أو البهارات، ولكن ما يجب تذوقه في مطبخه هو طبق الفلافل الذي لا يشبه سواه، ويقدمه الشيف عماد على شكل دوائر «دونات» مفرغة من الوسط، فهي مقرمشة ولذيذة وقريبة من قلب الطاهي وفأل خير عليه؛ لأنه اشتهر في لندن بسببها، وهي بمثابة مفتاح الخير والبركة بالنسبة له.

ويرى الأرنب، أنّ «العمل مع المؤسسات الخيرية يُشكل إضافة للمهنة، ولا يأخذ من طريقها». وهذه هي قناعته الشخصية التي يؤمن بها؛ ولذا قرر بأن يقدم جنيهاً واحداً من قيمة كل فاتورة تذهب لمساعدة اللاجئين في المؤسسات التي يدعمها والتي دعمت مشواره في لندن.

وعن تحديه فترة الجائحة واختياره أصعب الظروف لافتتاح مطعمه، قال الأرنب، إن الوضع كان ملائماً لأنه خلال تلك الفترة كان من الممكن الحصول على إيجارات منخفضة الأسعار فاقتنص الفرصة وحقق حلمه في مطبخه الصغير الذي ينوي بأن يجعله أكبر لكي يتسنى له تقديم الفطور الشامي التقليدي على أنغام فيروز إلى جانب الغداء والعشاء، فحالياً يستقبل المطعم زبائنه من الساعة 12 ظهراً ولغاية الساعة الثامنة والنصف مساءً، والإقبال على المكان واضح جداً؛ فهو محجوز بالكامل على مدى ساعات الأيام، ويقوم الشيف بنفسه باستقبال جميع الزبائن وغالبيتهم من الغرب، ويقول هنا «أنا ممتن جداً لهذا البلد ولشعبه؛ فالقرارات الحكومية المتعلقة بقانون الهجرة واللاجئين لا تمثل الشعب وإنسانيته». وتابع، أن «زبائنه يأتون إليه بعد قراءتهم عن المكان، وهذا الأمر يميزهم عن الزبائن العرب الذين يزورون مطاعم جديدة بعد سماعهم عنها من الأصدقاء والأقرباء».

عندما تكلمنا عن هوية المنتج الشرقي والأطباق العربية، دافع الأرنب عن هذا الموضوع بشدة لأنه يعتقد بأن الطعام هو بمثابة إرث وطني لا يمكن التلاعب به ولفته في لندن إكثار العديد من الطهاة الأجانب من استخدام الزعتر في وصفات لا تمت للزعتر بصلة، فضحك هنا وقال «لم سمحتم اتركوا الزعتر بحاله أو ضعوه في مكانه الصح، وإلا فاتركوه لنا».

الفلافل برأي الأرنب هي أقدم من بعض المدن ولا يجوز التلاعب بوصفتها على الإطلاق، وتابع بأنه يحاول جاهداً بأن يشعر الزبائن وكأنهم في سوريا وليسوا في لندن من خلال تطبيق الكرم السوري في المطعم تماماً مثلما يقوم به الطهاة وأصحاب المطاعم في بلاد الشام، كما أنه من المهم جداً التركيز على النكهة والنوعية وليس فقط على طريقة التقديم، مشيراً إلى أنه ليس من أنصار المطاعم التي تشدد فقط على شكل الطبق وليس النكهة، وعن النكهة قال، إن القدرة على الحصول عليها بالطريقة نفسها في كل مرة هو سر النجاح.

ولفتنا في المطبخ وجود جنسيات مختلفة، فعلق الأرنب عن الموضوع بالقول إنه يعمل معه في المطبخ نحو 13 شخصاً من جنسيات مختلفة، الغالبية منهم هم بالأصل لاجئون من بلدان مختلفة، منها البيرو، وسوريا، والجزائر، وسريلانكا… وعلق الأرنب هنا «هذا أقل ما يمكن أن أقوم به لأثبت بأن اللاجئ هو إنسان طبيعي يحق له العيش والعمل بسلام مثل باقي البشر».

أكثر البهارات والمنتجات التي يفضّل الشيف عماد استخدامها هي الكمون، والثوم، والنعناع المجفف، وقال، إن المطبخ الشرق أوسطي ليس معقداً، وإنما سمته المميزة هي البساطة، فيكفي أن تخلط زيت زيتون جيد النوعية مع القليل من الشطة لتكون ألذ نوع طعام مع قطعة خبز طازجة؛ فالطعام الجيد هو الذي يعتمد على المنتج الجيد. وبرأي الأرنب، فالمطبخ الشرق أوسطي يعتمد على التقنية وليس على المعدات؛ لأنه يمكن أن تقدم ألذ طبق شرقي إذا توفر لديك المنتج والسكين الحاد.

الحديث مع الشيف عماد الأرنب شيق وبسيط يشبه مطبخه الذي اكتظ بالزبائن أثناء حديثنا الذي أخذنا إلى الرياض السوري والبيوت الشامية الجميلة، ونقلنا إلى أجواء العائلة واللقمة الطيبة، وحب الأم التي كانت مدرسة بالنسبة للشيف عماد، كيف وهي من علمته كل شيء وهي تعيش معه في هذا المكان ويشعر وكأنها ترافقه في مشواره الذي كان محفوفاً بالعذاب والخوف والرعب من شبح الهجرة واللجوء، إلا أن النهاية كانت سعيدة؛ لأن عماد الأرنب هو اليوم من أشهر اللاجئين الذين يقدمون شيئاً بالمقابل للمدينة التي احتضنته والتي فتحت أمامه الفرص وجعلت عائلته سعيدة وتنعم بالأمان والطمأنينة.






المصدر

التعليقات مغلقة.