موقع اخباري عام مستقل معتمد نقابيا

«أسبوع الأزياء الراقية» يدفع ثمن فتح أبوابه للجميع-وكالة ذي قار


الابتكارات الغريبة تواجه انتقادات… والتفرد يفوز

انقسم أسبوع الـ«هوت كوتور» لربيع وصيف 2023 في الأسبوع الماضي إلى فريقين. فريق أبدع تصاميم فخمة ورفيعة، وفريق أثار الجدل وغذى وسائل التواصل الاجتماعي، بشكل مقصود حيناً، وغير مقصود حيناً آخر. فهذا الموسم، قبل أن يفتح أبوابه للجميع من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، كان في وقت من الأوقات بمثابة نادٍ خاص جداً لا تدخله سوى حُفنة من الزبونات النخبويات والمقتدرات. وعلى ما يبدو، فإن هذه الوسائل التي فرضت على المصممين أن يُلونوا تصاميمهم بكل ما هو صارخ ومتضارب لكي تكتسب الصورة على «إنستغرام» تأثيراً أكبر، بدأت تُؤثر على عملية الإبداع، تحت تسميات مختلفة. في الأسبوع الماضي، مثلاً فتحت النيران على بعض المصممين بتهمة انفصالهم عن الواقع وما يجري من حولهم. دار «سكاباريللي» كانت لها حصة الأسد من الانتقادات والجدل. السبب أن مصممها دانييل روزبيري قدم ثلاثة تصاميم تُجسد رؤوس حيوانات مُحنطة تبدو من بعيد وكأنها حقيقية رآها البعض تشجيعاً أو «تمجيداً لصيد الحيوانات».

الثنائي رولف سنورين وفيكتور هورستينغ، مؤسسا علامة «فيكتور أند رولف» قدما بدورهما عرضاً لا يقل إثارة للجدل، قلبا فيه معايير الموضة المتعارف عليها…حرفياً. بعد العرض، اعترفا أنهما تعمدا ذلك، أولاً لإبراز الحرفية التي يتضمنها أي تصميم، وثانياً لتسليط الضوء على مدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على حياتنا ونظرتنا للأمور. أسلوبهما في إيصال هذه الفكرة جمع الشقاوة بالمرح، لكنه لم يشفع لهما عند البعض ممن لا يُقدرون أن خط الـ«هوت كوتور» تحديداً هو مختبر للتجارب والأفكار الجديدة. بيير باولو بيكيولي، مصمم دار «فالنتينو» لخَص هذه الحقيقة بقوله: «إنه وسيلة لتحقيق المستحيلات ولتحدّي الأفكار والمفاهيم السائدة، ولابتكار وقائع جديدة وجريئة».

لكن بالنسبة للمتابع العاشق للموضة، فإن الأسبوع الباريسي كان انفصالاً مُرحباً به عن الواقع، من ناحية أنه كان فرصة لعدم متابعة الأخبار المتداولة حول دخول الحرب الأوكرانية مرحلة جديدة من التصعيد، والتهديدات البيولوجية وانتشار الأسلحة الـنـوويـة، وأيضاً استمـرار أزمـة المناخ وهلم جرا. ذكَرنا بأن الحياة جميلة، عندما تتلقى جرعات قوية من الإبداع والابتكار والفن. لمدة ثلاثة أيام نقل المصممون المشاركون عشاق الموضة إلى بُرج الـ«هوت كوتور» العاجي بكل أبعاده وبُعده عن الواقع الاقتصادي والسياسي المضطرب. فمقابل الشطحات السريالية، كان هناك كم هائل من الأناقة الراقية في عروض «شانيل» و«جامباتيستا فالي» و«إيلي صعب» و«فالنتينو» و«ديور» و«جيورجيو أرماني» وستيفان رولان وغيرهم.

من عرض «شانيل» (أ.ف.ب)   –   من عرض سيتفان رولان (أ.ف.ب)

– «شانيل»

الفن كان محوراً مهماً في عرضها لربيع وصيف 2023. فهذه هي المرة الثالثة التي تتعاون فيها المصممة فيرجيني فيار مع الفنان زافييه فيلهان لتصميم ديكور يتماشى مع رؤية دار عودتنا على الديكورات الضخمة والمثيرة. قام الفنان بزيارة لشقة الآنسة كوكو شانيل بشارع غامبون، ليستلهم منها. أثار انتباهه فيها عدد المنحوتات المتناثرة على الطاولات على شكل حيوانات مصنوعة من المرمر أو الخشب جمَعتها عبر السنين. ومن هنا تفتقت مخيلته على تحويل «لوغران باليه»، مسرح العرض، إلى ما يشبه السيرك أو قرية تحتضن مهرجاناً. صنع مجسمات من الكرتون أخذت أشكالاً ضمَت فيلاً وزرافة وتمساحاً وجملاً وحصاناً وغزالاً، يبلغ ارتفاع بعضها نحو 3 أمتار تقريباً.

بدأ العرض بدخول هذه المجسمات مجرورة على عجلات. ما إن استقر كل واحد منها في المكان المرسوم لها، حتى خرجت منها عارضات بأزياء أبعد ما تكون عن فانتازية الأجواء. فبقدر ما كانت هذه الحيوانات الكارتونية تبدو ساذجة وطفولية، كانت الأزياء راقية وناضجة بحرفيتها وتقنياتها، وإن كان أغلبها موجهاً لصبية في مقتبل العمر. كانت هناك تنورات قصيرة جداً، وبعدد غير مسبوق، إلى جانب رموز تعودنا عليها وعشقناها مثل تايورات وفساتين من التويد المغزول بخيوط تلمع تصل إلى الركبة وفساتين سهرة منسابة بتطريزات خفيفة جداً. كان من الطبيعي ألا تتجاهل فيرجيني فيار فكرة الفنان زافييه فيلهان، وأن تأخذها بعين الاعتبار، حيث استعملتها كتيمة تربط العرض من البداية إلى النهاية. البداية كانت ببطاقة الدعوة التي تلقاها الحضور وكانت من الكرتون المزيّن ببروشات صغيرة تجسد بعض الحيوانات، والنهاية بخروج العارضة الألمانية أنا إيوورز من فيل ضخم، بفستان عرس ناعم وقصير يصل إلى الركبة مطرز هو الآخر بأشكال عصافير وطيور.

– ديور

اليوم الأول من الأسبوع يكون دائماً من نصيب «ديور». وكالعادة كانت تيمته متوقعة، تدور حول الأنوثة. فمصممة الدار، ماريا غراتزيا تشيوري تحرص منذ دخولها «ديور» على إبراز أعمال فنانات، إما بالتعاون المباشر معهن أو بالاستلهام منهن. رأيها أن «النساء عموماً والفنانات العظميات تحديداً لا يحتفلن بأنفسهن كفاية، وأنا مهووسة بإبرازهن ودفعهن إلى الواجهة».

هذه المرة لم يختلف الأمر بالنسبة لها. مُلهمتها كانت الفنانة الأميركية من أصول أفريقية جوزفين بايكر، التي ألهبت مسارح باريس في العشرينات من القرن الماضي وجعلت عالم الكباريهات يكتسب صبغة فنية ثائرة على الأحكام المسبقة والصور النمطية. فساتين بشراشيب وأحجار الكريستال وأخرى للمساء والسهرة من الساتان أو المخمل الخفيف أو المجعَد والمبطن اكتسبت قوة ورومانسية بفضل التطريز. وحتى لا تضيع الفكرة، استحضرت الأزرار الفضية الصغيرة والترتر والشراشيب إلى جانب موسيقى الجاز وأجواء الكباريهات فترة زمنية مهمة في تاريخ الحركة النسوية والفن. الفرق الواضح فيها أنها جاءت بأطوال تغطي الركبة لتصل إلى الكاحل، الأمر الذي أخرجها من أجواء الكباريهات وأضفى عليها أناقة راقية.

– إيلي صعب

مثل العديد من الناس بعد الجائحة، لا يخفي إيلي صعب أن هناك توقاً شديداً لكي نعيش الحياة بشكل طبيعي ولذيذ. لهذا لم يكن غريباً أن تأتي التشكيلة التي قدمها لربيع وصيف 2023 دعوة صريحة للحياة بكل مُتعها ومتاعها تلُف المرأة والرجل على حد سواء بالحرائر وخيوط الذهب. 69 قطعة بالتمام والكمال لم يبخل على أي واحدة منها بالتطريز والتفصيل الذي يرتقي بأي امرأة إلى مصاف الأميرات. «فجر ذهبي»، هو العنوان الذي أطلقه عليها، موضحاً أنها ولدت في عالم خيالي لا تغرب شمسه أبداً، الأمر الذي يفسر أن اللون الذهبي ومشتقاته كان الغالب فيها. هذا العالم هو تايلاند الغني بثقافته وألوانه ودفئه وجمال قصوره وبلاطاته. لم تكن الأزياء فانتازية بقدر ما كانت تتحدى الخيال برومانسيتها وفخامتها. عنصران لصيقان بأسلوب مصمم لا يؤمن بما قل ودل. بيد أن ما يُحسب له دائماً، وعلى العكس من دانييل روزبيري مثلاً، الذي شعر أنه يحتاج لتقديم تصاميم فخمة وصادمة لدار «سكاباريللي» أو الثنائي سنورين وهورتينغ وما قدماه من تصاميم فخمة قلبت المعايير المتعارف عليها وخلقت جدلاً كبيراً، ثقته أنه لا يحتاج إلى شطحات مماثلة لكي يصيب الهدف ويُحقق المبتغى. فهو يعرف زبونته جيداً. يعرف مكامن قوتها وضعفها، ويلعب دائماً على وترها الحساس في الحصول على كل ما يجعلها متألقة ومتميزة، وهذا تحديداً ما قدمه لها على طبق من ذهب يوم الأربعاء الماضي. كل فستان كان يُنافس الآخر بتفاصيله المبتكرة وتطريزاته السخية على أقمشة مترفة تلونت بدرجات تفتح النفس على الحياة وتتوق لحفلات وأعراس الصيف.

للمرة الثانية، لم ينس الرجل. قدم له مجموعة، قد تكون قليلة تُحسب على أصابع اليد، إلا أنه اختزل فيها كل الجماليات التي يحتاجها ليلفت الأنظار. تمثلت في بدلات مفصلة و«كابات» مطرزة تنسدل من على الأكتاف لتلامس الأرض وكأنها تتحدى قانون الجاذبية. الجميل فيها أنه من السهل على المرأة سرقتها من خزانة الرجل لتتألق فيها بدلاً منه.

العارضة إيرينا شايك في عرض «سكاباريللي» (أ.ب)    –   من عرض فيكتور أند رولف (إ.ب.أ)

– سكاباريللي

افتتحت الدار الأسبوع بأسلوب جمع الإثارة الصادمة بالأناقة الفنية. أقل ما يمكن أن يقال عن العرض إنه أجَج وسائل التواصل الاجتماعي، فاتحاً باب الجدل على مصراعيه بين معجب ومستنكر. القصة أن المصمم دانييل روزبيري أرسل ثلاث عارضات هن شالوم هارلو بفستان يزينه رأس فهد، وإيرنا الشايك برأس أسد وناعومي كامبل برأس ذئب.

أطلق المصمم على تشكيلته عنوان «الجحيم» Inferno، مُفسراً أنه استلهمها من الملحمة الشعرية التي ألفها دانتي أليغيري في القرن الرابع عشر. كانت الملحمة عبارة عن رحلة خيالية إلى الجحيم، تعرف فيها على نفسيات بشرية متنوعة تأخذ مجازياً أشكال حيوانات. الفهد مثلاً يُمثل الشهوة، والأسد الكبرياء، والذئب الجشع والبُخل. كانت رؤوس هذه الحيوانات الثلاثة مُحنطة بأحجام وأشكال جد واقعية، جعلت المستنكرين لا يرون فيها سوى الجانب الاحتفالي بصيد الحيوانات و«تمجيده كهواية» حسب تصريح لمنظمة بيتا المدافعة عن حقوق الحيوان. روزبيري دافع عن نفسه مؤكداً أنّ هذه الرؤوس صُنّعت من الريزين ومواد صناعية أخرى، مُصرحاً بعد العرض أن نيَته كانت الاحتفال بالمرأة القوية، موضِحاً أننا في زمن يختلف عن كل ما سبقه، ولم يعد يتقبل ما قل ودل «وأنا أحب المرأة الحقيقية والطبيعية التي تريد أن تزأر مثل الأسد ليصل صوتها إلى العالم». ما يشفع للمصمم إلى جانب أن باقي التشكيلة كانت في أرقى حالاتها وتعكس مفهوم الـ«هوت كوتور» بشكل رائع، أنه يمشي على خطى المرأة التي تحمل الدار اسمها: إلسا سكاباريللي. كانت مصممة متمردة، تعشق الفن ولا تخاف من آراء الآخرين إلى حد أنها فضَلت الإفلاس عن التنازل عن رؤيتها الفنية للموضة. قد لا يصل الأمر بروزبيري إلى الانسحاب أو الاعتذار. فرغم الضجة التي أثارها، حصل على تغطيات لم يحصل عليها غيره.

من عرض «ديور» (أ.ب)   –    من عرض «إيلي صعب»

– فيكتور أند رولف

الثنائي الهولندي رولف سنورين وفيكتور هورستينغ معروفان بتقديم عروض سريالية يستعرضان فيها مهاراتهما الفذة. لكنهما لم يكونا يتوقعان حجم الضجة التي أثارها عرضهما الأخير. فقد تباينت الآراء حوله هو الآخر بين معجب ومستنكر. ربما يكون السبب أن الـ«هوت كوتور» أصبح مفتوحاً على الجميع، بمن فيهم من لا يعرفون أن هذا الخط تحديداً قائم على الرُقي والجمال في «أغلى» حالاته وتصاميمه الفريدة بالنسبة للزبونات، وبالنسبة للمصمم هو مختبر يُطلق فيه العنان لخياله وأفكاره دون قيد أو شرط. المصممان فيكتور ورولف يؤمنان بهذه الفكرة منذ بدايتهما، بل وصنعا اسميهما على هذا الأساس، إلا أن دراما طريقة العرض هذه المرة كانت جديدة وغريبة بعض الشيء.

لا يختلف اثنان على أنهما قدما 18 قطعة مفصلة بطريقة أنثوية وبتقنيات عالية، تجسدت في فساتين بكورسيهات ضيقة وتنورات من التول بألوان ناعمة، جاء بعضها مرصعاً بأحجار الكريستال. كل ما فيها يستحضر صورة أميرة أو سندريلا. المشكلة بالنسبة للمنتقدين، أنها لبست العارضات عوض أن يلبسنها، وبذلك قلبا مفهوم الأناقة رأساً على عقب. فقد ظهرت مثلاً عارضة بفستان غطَت تنورته صدرها ووجهها تماماً، بحيث كانت تتلمس طريقها على منصة العرض، بواسطة تعليمات صوتية. ظهرت أخريات وهن يلبسن فساتين بشكل عرضي، وعارضة تبدو وكأنها تسير إلى جانب فستان غطى نصفها الأيمن فقط، فيما كان النصف الأيسر بملابس داخلية.

الكثير من التعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن إيجابية، لكن المصممان شرحا بعد العرض أنهما أرادا أن يلعبا على ثقافة مواقع الإنترنت بكل أنواعها. فهي حسب قولهما تستنزف طاقتنا باستهلاكها كماً هائلاً من الصور تخضع للتغيير، إما بتجميلها أو العكس «وهو ما شوه إحساسنا بالواقع»، حسب قول سنورين، مضيفاً: «هناك انفصام بين ما نراه على هذه المواقع، وحقيقة المنتج». يلتقط منه فيكتور هورستينغ خيط الحديث قائلاً: «ثم لا ننسى تلك الحالة غير المنطقية التي تنقلنا من متابعة عرض أزياء على الهاتف إلى خبر عن قتل جماعي، ومن صنع كعكة موز إلى الحرب في أوكرانيا». إنه عالم مجنون يحتاج إلى جُرعة من الشقاوة والمرح لنخرج من حالة الفوضى التي نعيشها.






المصدر

التعليقات مغلقة.